بعد قليل..

بتم ليلتكم في العراء، لا جدران تحاصركم في حرّها أو تلف مفاصل أجسادكم في بردها. لم تداهمكم بنعاسها أمراض الزنازين. إنها الليلة الأولى من عمركم التي تتعرفون فيها على تقاطيع الوقت في مساء الاعتقال.. فالأصوات ليست ذاتها. لا صرير مزعجا ينبعث من أنابيب الماء فوق سطح المعتقل، ولا صوت مفاتيح بيد سجّان ملّ من حراسة الصمت، ولا تمتمات باللغة العبرية بين شرطي وآخر.. حتى إن صفارات الإنذار في ضواحي مدينة عسقلان تلاشت.. ابتعدت مسافة أعوام مضت، إلى ما قبل الدخول إلى باحة السجن..

هل أعددتم قهوة آخر صباح خلف السياج؟ كيف كان طعمها؟ لن يقرأ أحد في فنجان الآخر مسار الأيام المقبلة. وإن فعل فلمن يفعل ذلك.. للباقين وهم كثر أم للخارجين وهم كثر أيضا؟ الخارجون إلى قرية لم تعد ذاتها.. إلى مخيم لم يعد ذاته.. إلى ارض لم تعد نفسها، فالبعض سيغادر نهائيا في رحلة اللاعودة. ترى ماذا سيسجل هناك؟ «لاجئ محرر»؟ فكلمة لاجئ ربما تعني حق العودة يوما ما.. ماذا سيكتب على بطاقة غوثه؟ أم ستكون له في الأمم الجديدة بطاقة جديدة لحالة جديدة؟ لشعب عرف كل الحالات: المشرّد، والمبعد، واللاجئ، والمنفي..

بتم ليلتكم في العراء. لم تراجعوا ذكرياتكم القديمة كما كنتم تفعلون كل يوم ما أن تضعوا رؤوسكم على الوسادة.. هل تعريتم من ذاكرتكم القديمة أيضا، وهي كانت غذاءكم الروحي للصحو وللنوم على السواء؟
الآن ارتفع صوت المذياع العبري ينادي على أسمائكم، لا إلى زيارة أهل، فاليوم ليس يوم الجمعة وهو بالتالي ليس موعد زيارات الأهل المقطوعة أصلا منذ فترة طويلة.. وليس الوقت الصباحي المبكر هذا موعدا لزيارة محام ما نجح في انتزاع تصريح كي يرى موكله بعد صدور الحكم بالمؤبد وليس قبله، فعادة يتم ذلك في منتصف النهار بعد أن يكون المحامي قد تكلف عناء الانتظار طويلا.. ولا هي بالطبع زيارة إلى عيادة السجن، فغالبا ما يخرج إليها الأسير على حمالة وليس بمحض إرادته.
يعلو صوت المنادي ثانية.. يعاد تكرار أسماء الأسرى المفرج عنهم.. أنت لن تسمع اسمك، لكن غيرك سوف يسمعه.. يقول أسير لم يدرج اسمه ضمن لوائح الأسرى المفرج عنهم إلى أسير سيصير محررا بعد قليل..

تستدلون على أسماء بعضكم البعض كما لو أنكم في المرة الأولى التي تسمعون فيها بكنيتكم كاملة.. فلا أرقام تعلن ولا اختصار لاسم عائلة أو تحريف بلفظها.. فالأسماء تعلن كاملة، لكن ثقل الفرح يحجب حتى السمع..
تتسارع دقات قلوبكم. إنه الموعد الأول مع حبيبة لم تعرفونها إلا بين الغاز المسيل للدموع والجدار الفاصل ورنين السلاسل.. لم تتعرفوا على مفاتنها الجميلة.. ثوبها الأحمر القاني مصبوغ بدم الشهداء.. شعرها منثور مثل وردة الدار العتيقة.. رائحتها كرائحة درب قديم قبل أن يقطعه طريق مسيّج إلى مستوطنة جديدة.. قبل أن تقتلع جرافات العدو شجرات الزيتون على جانبيه.. انه لقاؤكم الأول مع ذاتكم التي لن تعرفوها جيدا إلا حين ترتمون في أحضان حبيبتكم الحرية. لقاء يحتاج إلى أكثر من حلم.. إلى إرادة أقوى من إرادة صمودكم.. فكل شيء تغيّر.. ولم يبق إلاّ طعم القهوة ورائحة المريمية..  

السابق
معن الاسعد: لقاء سيدة الجبل اصطفاف غير مبرر
التالي
من ضابطة..إلى راقصة تعري !!