الرياض الحزينة والثوابت السعودية

الفرحة العارمة التي عمّت الرياض وأنحاء المملكة العربية السعودية بنجاح العملية الجراحية للملك عبد?الله سرعان ما غصّت بغيمة الحزن التي غطّت البلاد إثر انتشار خبر وفاة الأمير سلطان بعد صموده الأسطوري بمواجهة المرض العضال·
سنوات مريرة، كانت إرادته ومعنوياته العالية سلاحه الأوّل ضد المرض، الذي عجز الطب الحديث حتى الآن عن قهره والتغلب عليه·

أثار رحيل سلطان صاحب المواقف الجريئة والكبيرة صدمة مؤلمة في أوساط العائلة السعودية، كما لدى الأوساط الشعبية التي أولاها ولي العهد الراحل اهتماماً مميزاً، وحافظ على التواصل المستمر مع مختلف شرائحها حتى سنوات المعاناة الأخيرة·

ورغم حجم الصدمة المؤلمة ومشاعر الحزن المهيبة، فقد حافظت الرياض على هدوئها في الاستعداد ليوم الوداع الأخير للأمير الذي وضع القواعد الأساسية للقوات المسلحة السعودية، ولصاحب الرؤية الذي أطلق مسيرة تطوير الطيران السعودي، الحربي والمدني على السواء، وقاد العديد من المفاوضات الصعبة لمعالجة الملفات العالقة مع دول الجوار العربي، وتسوية المشاكل الحدودية المزمنة، عبر الإقدام على ترسيم حدود المملكة مع الأشقاء الخليجيين·

هدوء الرياض هذه الأيام هو ظاهرة مميزة تُجسّد حكمة القائد وهدوء القيادة، وحرصها على الابتعاد عن الانفعال،?ولعبة الفعل وردة الفعل، في تدبير شؤون الأمة، كما في التعاطي مع التطورات السياسية المتلاحقة عربياً وإقليمياً··· وحتى دولياً!·

ولعل الميزة الأساسية في هدوء الرياض وحكمة القائد تتمثل في الابتعاد الدائم عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، سواء أكانوا أشقاء أم أصدقاء·

وتبرز أهمية هذا المبدأ الثابت في السياسة الخارجية السعودية في هذه المرحلة بالذات، حيث تهب رياح الانتفاضات والثورات في أكثر من بلد عربي، ويتوالى سقوط الأنظمة التي كانت حتى الأمس القريب تعتبر من القلاع المنيعة، في حسابات أصحابها على الأقل، والكل يرصد مواقف المملكة وتصريحات مسؤوليها، ليحدد الموقع السعودي على خريطة المتغيرات العربية المتسارعة·

العارفون بتفاصيل التجربة السعودية يدركون بأن المملكة على تمسكها بالقيم والمبادئ التي تؤمن بها قيادتها التاريخية، تحافظ على مكانتها الوازنة عربياً وإسلامياً ودولياً من جهة، وتحفظ التوازن لأدائها المنشود داخلياً وخارجياً من جهة ثانية·

وفي إطار هذا التوازن، تتابع الرياض تطورات الحراك العربي الحالي، بعيداً عن أي تدخّل يؤدي إلى اتخاذ موقف مع هذا النظام أو مع تلك الانتفاضة، على اعتبار أن ما يجري في بلدان الانتفاضات من تونس ومصر وليبيا، إلى اليمن وسوريا، هو شأن داخلي، يعني الشعوب في تلك البلدان وأنظمتها أولاً وأخيراً·

ولكن موقف عدم التدخل في الشأن الداخلي للأشقاء، لا يعني غياب المملكة عن بذل مساعيها الحميدة لتقريب الهوة بين النظام والمعارضة في أكثر من بلد عربي، وخاصة اليمن، وذلك عبر مقررات واتصالات هدفها دائماً حقن الدماء، وفتح الطريق السريع أمام الإصلاحات المنشودة، والعمل على تأمين انتقال سلس للسلطة، بعيداً عن الصدامات الدموية، والفتن المذهبية والقبلية، وهي المبادئ التي انطلقت منها المبادرة الخليجية في اليمن مثلاً!·

في أحاديثك مع أهل الرأي وصنّاع القرار لا تشعر بنفس الشماتة عندما يصل الحديث إلى النهاية الدموية للعقيد معمر القذافي وأبنائه، رغم كل السياسات العدائية التي انتهجها حاكم ليبيا السابق ضد المملكة، والتي وصلت إلى حدّ التآمر لاغتيال الملك عبد?الله شخصياً يوم كان ولياً للعهد، وصاحب المبادرة العربية للسلام·

الماضي، بالنسبة للسعوديين، أصبح ملك التاريخ، والكلمة الآن هي للشعب الليبي الشقيق، والمملكة لن توفر جهداً لمساعدة الإخوان الليبيين في إعادة بناء دولتهم·

أما ما يجري في اليمن فيشكل مصدر قلق في الرياض· الأزمة طالت أكثر مما ينبغي· الصراع يتحول إلى مشهد دموي يومي بين مؤيدي علي عبد?الله صالح والمعارضة، وانزلاق اليمن نحو حرب داخلية يفسح المجال للجماعات الإرهابية بالتحرك وإعادة تنظيم الصفوف، كما يفتح احتمالات التدخلات الخارجية على مصراعيها، فضلاً عما يثيره من نعرات قبلية ومناطقية تزيد مشاكل اليمن تعقيداً·

وتراقب الرياض بعين الحريص على الشقيق الأقرب سياسياً المرحلة الانتقالية في مصر، على أمل بلوغ شاطئ الأمان بعد تكوين السلطة الجديدة عبر الانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة· وثمة رهان في السعودية على أن مصر تبقى أقوى من محاولات النيل من وحدتها الداخلية، وأن المملكة ومعها مجموعة دول مجلس التعاون على تواصل مع قيادة المجلس العسكري والحكومة المصرية للمساعدة في تخطي الصعوبات الراهنة، خاصة في المجال الاقتصادي، حيث تجاوزت المساعدات السعودية الأوّلية الخمسة مليارات دولار·

أما لبنان فيبقى موضع العناية الدائمة، رسمياً وشعبياً على السواء، رغم كل الإشارات السلبية التي تصدر عن بعض اللبنانيين وتسيء إلى العلاقات الأخوية بين الشعبين الشقيقين·

ما يهمّ الرياض أن تبقى بيروت والأنحاء اللبنانية آمنة، و بعيدة عن أي مظهر من مظاهر العنف المسلح· فالخلافات السياسية بين اللبنانيين ليست جديدة، ولكن يجب أن تبقى في الإطار السياسي ولا تخرج إلى الشارع، حتى لا تستغلها أطراف خارجية وتوظفها في إشعال نار فتنة أخرى في لبنان·

وثمة تحفّظ على التعاطي مع الوضع الحكومي الحالي، على اعتبار أن الحكومة القائمة لا تجسّد الوفاق اللبناني، كما نص عليه اتفاق الطائف، وأن أمامها استحقاقات مهمة، يتوقف على طريقة التعاطي معها، خاصة بالنسبة للقرارات الدولية، تحديد موقف المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي من نوعية التعامل مع الحكومة الميقاتية·

الرياض هادئة ومرتاحة على الأوضاع الداخلية مع مسيرة الإصلاح والإنماء التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد?الله بن عبد?العزيز بقوة وزخم تسابق الزمن، ولكن العاصمة السعودية، ومعها كل المملكة، حزينة على فقدان رجل الدولة والتحديث، سلطان الخير والكرم، أمير الإنجاز والحوار، الأمير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله وأكرم مثواه·  

السابق
حمدان: تحرير الصدر ورفيقيه يشكل مفتاح العلاقة المستقبلية بين لبنان وليبيا
التالي
معن الاسعد: لقاء سيدة الجبل اصطفاف غير مبرر