صندوق سحري

لعل العقيد معمر القذافي اختار بنفسه موعد مصرعه، لكي لا يشهد غدا دخول الثورة العربية الكبرى واحدة من اهم مراحلها، عندما يتوجه الناخبون التونسيون الى صناديق الاقتراع للمشاركة في اول انتخابات حرة وديموقراطية تنهي مرة والى الابد الاستبداد والفساد في تونس وتكتب صفحة مشرقة من التاريخ العربي الحديث.

قد يكون العقيد القذافي قرر الموت يوم العشرين من تشرين الاول بالتحديد، عندما سمع ان المغتربين التونسيين المقدر عددهم بمليون نسمة اكثر من نصفهم من المنفيين، توجهوا بالفعل ومنذ الساعات الاولى من صباح ذلك اليوم الى مراكز التصويت في سفاراتهم، لاختيار نوابهم في المجلس التأسيسي الذي يفترض ان يكتب دستورا جديدا لتونس يرسي بنيان السلطة العصرية واحكامها وقواعد تداولها، ويحدد مواعيد للانتخابات الرئاسية والنيابية والمحلية، ويعلن ان الشعب التونسي قد تسلم مقاديره.
الأرجح أن القذافي لم يكن يريد ان يكون حيا في مثل هذه التجربة المؤلمة التي يخرج فيها شعب عربي جار، لطالما اهانه العقيد ومسّ كرامته، ليؤكد أن ثورته انتصرت وليبرهن على أن دولته ومجتمعه كان وسيبقى أرقى وأهم وأقوى بكثير من طاغيته زين العابدين بن علي. لم يكن القذافي يرغب في أن يعلم مجرد العلم ان ثمة نموذجا تونسيا راسخا سيعبر في المستقبل القريب الحدود التونسية الليبية، مثلما عبرت شعارات الثورة وهتافاتها ومطالبها وحفزت الليبيين على الخروج من منازلهم في السابع عشر من شباط الماضي لكي يثبتوا انهم ليسوا جرذانا، ولن يقبلوا بأقل من التخلص من الفضيحة التي كانت تخجلهم وتحط من قدرهم على مدى أربعة عقود. 
كان له ما اراد. وجاء اختياره ليوم مقتله حافزا اضافيا للتونسيين لكي يكملوا المشوار من دون الالتفات الى الوراء، الى صور بن علي التي رفعت قبل ايام في بعض انحاء العاصمة فقط لكي تحذرهم من مخاطر مقاطعة الانتخابات او اغفال اهميتها. وهو ما يتوقع ان يفعله الليبيون قريبا جدا، من دون ان يستخدموا صورة القذافي طبعا، لانها كانت مؤشرا على وصمتهم اكثر مما كانت نسخة عن طاغيتهم. يكفيهم فقط ان يؤسسوا دولة طبيعية مستقرة بنظام سياسي عادي، لكي تمحو ليبيا عارها وتدخل التاريخ من أوسع ابوابه، مهما استغرق ذلك من وقت ومن جهد ومصاعب ومتاعب. يكفيهم ايضا النظر الى جهة الغرب، لكي يلاحظوا ان التونسيين يساهمون من حيث لا يدرون في اختصار المسافة والزمن امام الثورة الليبية وامام بقية الثورات العربية، ويزيلون الشكوك في قدرة العرب واستعدادهم للانتماء الى العصر، واقامة دول حديثة تتقدم على كل ما انتجه العالم الثالث، بل على كل ما انتجته اوروبا الشرقية منذ انهيار جدار برلين وحتى اليوم.

باختياره تاريخ رحيله النهائي، قدم القذافي خدمة اخيرة للثورة العربية لن ينساها احد… لأنها فاتحة عصر الصندوق السحري، صندوق الانتخابات الذي طالما حلم به العرب جميعا.  

السابق
إنفجارات داخل مزارع شبعا
التالي
أهالي جل البحر يرفضون ترك منازلهم برغم الإغراءات