أقران القذافي ومستقبل ليبيا

أقران معمر القذافي وزملاؤه في مهنة التسلّط، أخذوا يتفقدون أجسادهم ويتحسسون رؤوسهم، بعدما بلغهم نبأ مقتله في سرت أمس. فهؤلاء، أو بعضهم على الأقل، كان يأمل بأن يتمكن القذافي من الصمود، بجنونه، وببضع مئات من عناصر كتائبه التي بقيت تسانده، وأن يطيل الحرب الدائرة داخل ليبيا لمنع الثوار من السيطرة الكاملة عليها، ولاستنزافهم وإظهار عجزهم ولتعميم حال من الإحباط إزاء الثورة والثوار.

هؤلاء، أرادوا الإفادة من جنون القذافي ورعونته لاستخلاص ما يرغبون فيه من عِبَر لتأديب الشعوب بسبب تجرؤها على الثورة. وكان صمود القذافي وسيلتهم المفترضة الى ذلك. بمقتله لا بد من أن يكونوا شعروا بالخطر المقبل عليهم. ولا بد من أن بعضهم، حين يقف أمام المرآة الآن، يسأل نفسه أي مصير سيواجهه، حسني مبارك وراء القضبان، زين العابدين بن علي اللاجئ، أم صدام حسين في المحكمة ثم عنقه في حبل المشنقة، أم نوع جديد من النهاية المحتومة؟ ما هو السلوك الذي سيعتمدونه عندما تأتي ساعة الحقيقة وعندما يدنو الاستحقاق الذي لا مفر منه؟ هل يسبقون الثوار بالانتحار؟

بمقتل القذافي ذهبت معه أسرار كثيرة. فالوجه الآخر لنتيجة قتله هو أنه بقدر اغتباط الجماهير في ليبيا وفي الدول العربية، والعالم، بانتهاء طاغية مارس أبشع صنوف الإهانة للعقل البشري، فإن بعضاً من أقرانه، وبعضاً من خصومه الحاليين، مغتبطون لغيابه لأنه وفّر عليهم كشف الكثير من الأسرار التي تورطهم في المشاركة بتاريخه الدموي، والانخراط في كمية من الفضائح العالمية.
 
وبقدر ما كان البعض يشتهي أن يشاهد القذافي على شاشات التلفزة، في المحكمة في طرابلس، أو في قاعات المحكمة الجنائية الدولية، يدلي بشهاداته عن قتل سجناء «أبو سليم»، أو يتحدث عن الوقائع الكاملة لتفجير طائرة لوكربي، أو يكشف عن خلفيات وخفايا وحقيقة «إخفائه» الإمام موسى الصدر ورفيقيه، ويروي اتفاقاته مع هذا الجهاز الاستخباراتي الدولي أو العربي على هذه العملية أو تلك، فإن الذين يشاطرونه صناعة الوقائع حول كل تلك الجرائم، تمنوا أن يُحال بين القذافي وبين مشهد مثوله في أي محكمة.

أثلج مقتل القذافي قلوب هؤلاء مثلما أفرح جماهير تمنت هذه النهاية لديكتاتور، لكنه خيّب آمال كثيرين كانوا يأملون بسماع اعترافاته لو بقي حياً، لعلّه يكشف بعض شركائه المكتومين والمعروفين. ولعلّ هذا ما دفع بعض المراقبين الى التساؤل عما إذا كان قتل القذافي تم بعد أسره حياً، وليس أثناء معركة أصيب خلالها في مخبئه.

لكن بعيداً من هذه الفرضيات والتمنيات والرغبات فإن نهاية القذافي تطرح ما هو أهم من سبر أغوار أرشيفه: مصير ليبيا وسط التحديات والصعوبات التي تواجه الثوار ومستقبل الشعب الليبي إثر إزاحته، بعد أن أرهق هذا الشعب تحت حال من الفقر والقمع والتخلف، وبدّد ثرواته ومنع تقدمه.

وبعيداً من كل أنواع التكهنات تنتقل ليبيا بدءاً من اليوم الى مرحلة جديدة لا تقل صعوبة عن المرحلة التي بدأت في 17 شباط (فبراير) الماضي هي المرحلة الانتقالية تمهيداً لبناء الدولة وإرساء العملية السياسية بأقل قدر ممكن من الخسائر والسلبيات والأضرار، عبر اعتماد خريطة الطريق التي أقرها المجلس الوطني الانتقالي لتشكيل حكومة انتقالية جديدة فور إنجاز تحرير الأراضي الليبية من فلول القذافي، ثم تشكيل مجلس تأسيسي يتولى وضع دستور موقت وقوانين الانتخاب والأحزاب والإعلام وصولاً الى إجراء الانتخابات التشريعية بعد 18 شهراً.

إذا حالت الخلافات القائمة حالياً على تشكيل الحكومة الجديدة دون رؤيتها النور وإذا غلبت الانقسامات القبلية، والتنافس بين تيارات الثوار السياسية على الحصص والسلطة، وإذا لم يقدم كل فصيل أو تيار تنازلات لمصلحة القيادة الجماعية فإن ليبيا ستعيش حالاً من الفوضى كأن القذافي ما زال حياً يدير حال العجز الليبي.

لا أوهام حول الحاجة الى المزيد من الوقت قبل أن يتبلور «الربيع العربي» في أنظمة سياسية تنتقل فعلاً الى التعددية السياسية وإلى الدولة المدنية، لإيجاد قنوات وأطر لضبط الصراعات الطائفية والمناطقية والإثنية في المجتمعات التي تشهد الثورات العربية. وإذا كان من عدوى أطلقت موسم «الربيع العربي» فإن تزامن نهاية القذافي مع التحضير لإجراء الانتخابات التشريعية في تونس وقبل زهاء شهر من الانتخابات المصرية قد يكون مدعاة أمل بأن يتغلب منطق التسويات في ليبيا، على العثرات التي لم تخلُ منها المرحلة الانتقالية في كل من مصر وتونس. 

السابق
الانباء: ملاسنة عنيفة داخل الحكومة اللبنانية كشفت عن القلوب الملآنة
التالي
عم تجرجر !؟