إنجازان فلسطينيان

خطوة إضافية خطاها الفلسطينيون بالأمس نحو تأكيد نضوج عصب وحدوي طال أوان نموّه حتى كاد ييبس ويطقّ ويُسقط في اليد أي أمل فعلي باكتماله.
تشظّى الفلسطينيون سنوات طويلة على آلة الممانعة القديمة منها والحديثة.. الأولى مع محور "الصمود والتصدّي" صاحب الآلة الإنشائية والبلاغية الصاخبة من دون أثر عملي وفعلي. والثانية مع المحور السوري الإيراني وملحقاته، صاحب البازار المفتوح لخدمة مشروعه وسياساته.

في المرحلتين، قارعت القيادة الفلسطينية ورمزها ياسر عرفات، محاولات وضع اليد على القرار الوطني المستقل ومحاولات ضبّه تحت إبط تلك الأنظمة التي افترضت دائماً أنّها قادرة على رؤية مصلحة الفلسطينيين أكثر منهم ومن قيادتهم، وأنّها الأولى برعاية متطلّبات عملية التحرير التي لا يجوز، في عُرفها، إلاّ أن تكون من البحر إلى النهر.. من دون فواصل!

انتهى الأمر على ما يعرف الفلسطينيون وأهل تلك الدول المنكوبة بأنظمتها، إلى حطام مزدوج: واحد داخلي يتعلق بالبنى والبنيان والاجتماع والاقتصاد والتنمية وهدر الثروات العظمى على أفكار ورؤى ضحلة. وثانٍ خارجي موصول يتعلق بالقضية الفلسطينية إيّاها، بحيث أنّ شبراً واحداً من الأرض السليبة لم يُحرَّر على أيدي المنقذين والمحررين المفترضين هؤلاء.
في المرحلتين، ضاع الفلسطينيون طويلاً في تيه أنظمة الممانعة أكثر مما تاهوا في مواجهة إسرائيل. ولا غلو في الاستنتاج أنّ تقاطع المصالح بين إسرائيل وأعدائها الأكثر صخباً، كان دائماً على حساب الفلسطينيين وأدى إلى ابتعادهم أمتاراً إضافية عن مبتغاهم وهواهم.

.. واحدة من أشرس حروب التفلّت من ذلك الإطباق والحصار، خاضها على مدى عمره ياسر عرفات. نجح في بعضها وفشل في معظمها، حتى بدا في آخر أيام يأسه وكأنّه ناطَحَ جبالاً وتحطّم في أسفل سفوحها.
بعد الربيع العربي تغيّرت أمور كثيرة وكبيرة. من ضمنها ضمور القدرة على الإطباق العربي والاقليمي على بعض الداخل الفلسطيني ومن الجهتين: سوريا وإيران من جهة ومصر من جهة ثانية. حتى إسرائيل، كما يقول عزيزنا بول شاوول، رضخت لمنطق ذلك الربيع. ولولاه لما تفتّحت آفاق الحدثين الأبرز: إعلان طلب العضوية التامّة في الأمم المتحدة، وصفقة تبادل الأسرى.

وللبعض أن يضع الأمرين في سياق مواجهة سلبية. بمعنى أنّ إسرائيل تقصّدت أن تعطي "حماس" ما منعته عن الرئيس محمود عباس لتردّ على خطاب طلب العضوية التامّة في المنظمة الدولية (؟) في حين أنّ منطق الأمور يذهب في اتجاه أكثر معقولية وفيه أنّ نتنياهو وجد نفسه أمام معضلتين كبيرتين، وكان لا بد من خطوة استثنائية لكسر تأثيرهما السلبي عليه وعلى حكومته: الأولى (تحت وطأة الربيع العربي) التحرّك المطلبي الإسرائيلي الداخلي، والثاني خطوة الرئيس عباس في الأمم المتحدة.
في كل الحالات، تلقف الفلسطينيون الإنجازين بما يليق بهم وبمسعاهم نحو توحيد الرؤى والأهداف والجغرافيا. الاعتراضات على طلب العضوية التامة ظلّت مبدئية وخجولة. والاستقبالات، في السياسة والمعنويات والموقع، للأسرى المحرّرين ألغت هوامش وفوارق كثيرة بين غزّة والضفّة وبين "حماس" و"فتح" والرئاسة الفلسطينية.
تتمّة ذلك التفتّح، أطلقها وعداً صادقاً الرئيس الفلسطيني من رام الله أمس عندما أكد قُرب استكمال الإنجاز الثالث، أي الاتفاق مع "حماس"… ليس لائقاً أن تطلق إسرائيل مئات الأسرى الفلسطينيين من سجونها، ويبقى شعب فلسطين في مجمله أسيراً في سجن انقساماته. 

السابق
الغلاء في لبنان حوّل متوسطي الـدخل…. إلى فقراء
التالي
مستثمرو سوق صور الشعبية ينتقلون إلى الجديد