الجيش السوري العقائدي…

كلما نزفت جراحات شعبنا في سورية , وطالت محنته تُثبت ثورته – وستثبت لاحقاً – أنها ثورة فريدة عن أترابها العربيات , فالإنشقاقات العسكرية كانت لجيوش أو فرق بكاملها عدا في سورية فهي لأفراد أو مجموعات صغيرة , و أعداد المنشقين حتى أكتوبر الجاري بلغت 15 ألفاً , مع فعالية ميدانية ضعيفة وقيادة غير منظمة من دون دعم لوجستي , وهو ما ظهر واضحاً من خلال الفشل التنظيمي لكتيبة خالد بن الوليد في منطقة الرستن وتلبيسة , الأمر الذي أدى إلى خسارتها للمعركة أمام جيش النظام .بشكل أثار تساؤلات المراقبين وأظهر على السطح علامات إستفهام تستدعي الرجوع إلى تاريخ جيشنا الوطني و تركيبته وقياداته في ظل سيطرة العقلية الأمنية على مقدرات الحياة المدنية والعسكرية معاً .

جيشنا في سورية لا يزال يئن ثملاً تحت تأثير عقود طويلة من ضياع الهوية وإهتزاز الإيديولوجية, ليتحول من جيش عقائدي بأهداف ومبادئ وطنية إلى شتات من أفراد لا يجمعها سوى برامج عسكرية غير هادفة, بل وأكثر من ذلك : سلبية في آثارها على شخصية العسكريين بمختلف رتبهم ومراكزهم .

هكذا بدا لي الجيش السوري خلال فترة التخصص الطبي التي امتدت لأربع سنوات في المستشفيات العسكرية في دمشق ( مستشفيات تشرين والمزة وحرستا ) ولم تكتمل بسبب خروجي الإختياري من سورية تحت وطأة الضغوط والرقابة الأمنية .
إن المبدأ الأول في بروتوكولات العقيدة العسكرية السورية هو ما يتداوله العسكريون في ( دورات الأغرار ) وهي المراحل الأولى من الخدمة العسكرية : وينص بالعامية السورية على ( عسكرية : دبرْ حالك ) أي: كل الوسائل متاحة بل وضرورية لتجاوز الخدمة العسكرية . 
المبدأ الثاني ينص على إعتبار كل المظاهر الدينية مخالفة للقانون العسكري , وهذا ما ينطبق بخاصة على أداء الصلاة , و إطلاق اللحى . و هو ما يُرجعه القادة العسكريون إلى أن الجيش بعقيدته وطني غير طائفي , وهذا بالضبط هو التناقض والفخ الذي أوقع النظام نفسه فيه , فشعبنا بمكوناته الدينية الأغنى بتنوعها في منطقة الشرق الأوسط ينبذ الطائفية ويعتبرها سلاحاً موجهاً ضده , والتاريخ السوري يشهد لشعبنا بالتعايش العفوي العميق بين طوائفه , فهو لم يعرف الفتنة الطائفية إطلاقاً , واليوم يعرف السوريون أن محبة المسلم للمسيحي تكاد تكون أكبر من محبة المسلمين لأنفسهم , لكن النظام بمؤامرته ضد المجتمع السوري بإغتيال المعارضين له من العلويين و تفجير الباصات والكنائس أعطى لنفسه الذريعة لقمع الإخوان المسلمين – الحركة الأكثر شعبية في الداخل .
لقد تبجح إعلام النظام بأكاذيب وحملات فتنة إختلقها بنفسه , متجاهلاً أن المقربين من أوساط ضحايا الإغتيالات أنفسهم يعرفون القتلة , يعرفون أن رفعت الأسد قد إغتال المعارض العلوي رئيس جامعة دمشق الدكتور محمد الفاضل , ويعرفون أن عناصرالفرقة الثالثة التي كان يقودها شفيق الفياض قد ارتكبوا مجزرة المشارقة في حلب عام 1980 ليغتالوا الدكتور البعثي عبد الرزاق عرعور , و يعرفون من إرتكب تفجير الأزبكية في دمشق. ولماذا ?

و اليوم أعادت الثورة السورية الأمل لفتح ملفاتٍ نائمة في حضن التاريخ , وهو ما يخشاه أركان النظام البائد من أمثال نائبي الرئيس السابقين عبدالحليم خدام و رفعت الأسد ليدخلا أخيراً في صراع حول المسؤولية عن مجزرة حماة .
لكن لماذا يتناسى قادة الجيش والأجهزة الأمنية ممن يدعون نبذ الطائفية أنهم هم أنفسهم قد إستفزوا مخاوف الأقليات و ركبوا على المشاعر الطائفية, ليجعلوا من الجيش والمخابرات تركيبة عجائبية أدت إلى حالة الكبت الطائفي المصطنعة من خلال الفرز الطائفي لهرم البنية العسكرية والمخابراتية بالتزامن مع القمع لكل الرموز والإيحاءات الدينية العلنية بحجة نبذ الطائفية , الأمر الذي جعل الخوض في الشأن الديني – مهما كان إيجابي الأهداف – يدخل في نطاق الخطوط الحمر كالإرهاب و تجارة المخدرات .
ولماذا يتجاهل دعاة الطائفية ورعاتها أن حركة الإخوان المسلمين حركة جماهيرية سلمية سراً وعلانيةً , و أن الطليعة المقاتلة بإعتراف قيادات النظام وعلى رأسها السيد الرئيس حافظ الأسد ليست جزءاً من الإخوان المسلمين بسبب الخلاف بينهما على حمل السلاح ضد إرهاب الجيش وطائفية النظام الذي ما أضاع فرصةًً لإثارة النعرات الطائفية وضرب الوحدة الوطنية من خلال ( الإقصاء الهرمي للضباط على أساس طائفي) , بدءا بتسريح الضباط السنة بالترافق مع قمع الإخوان المسلمين وفصل المعلمين المتدينين أو تهميشهم , حتى إنقلاب مارس 1963 لتبدأ مرحلة إقصاء ضباط الأقليات غير العلوية , إنتهاءً بصراع بين الضباط العلويين أنفسهم لغاياتٍ خاصة ضد مصالح الطائفة والشعب كله, ولا تنسجم مع تعاليم التسامح الديني التي تتجلى واضحة في ثنايا الفكر الإسلامي العلوي .

المبدأ الثالث : القاعدة هي إعتبار الإجازات الإستثنائية والإضافية خاضعة لقوانين شركات الخليوي : أي أنها مسبقة الدفع ,عدا في حالات استثنائية تكون فيها لاحقة الدفع , كالحالات المرضية الخاضعة لقوانين ( عقيدة الديزل أو المازوت) وما هو معروف من إنتشار لظاهرة حقن الجنود للمواد النفطية في أطرافهم للإستشفاء ثم الحصول على إجازة مرضية , فالجندي المسحوق يعاني من ضغوط نفسية وجسدية كبيرة وبخاصةً العسكريين في الوحدات الخاصة والحرس الجمهوري , ولذلك يكثر مرضى الديزل في مستشفى المزة العسكري , عدا عن أشكال غريبة من الهيستيريا و الخداع , وهو ما يوقع الأطباء في الحيرة والشك والأخطاء الطبية المؤسفة.
المبدأ الرابع : ( وهذا ليس من وحي الخيال الأدبي ) هو ما يستنتجه العسكري أثناء خدمته ليقول : أتمنى حدوث الحرب كي أقتل قائدي أولاً .

بناء على ماتقدم , وعلى مبادئ أخرى ليس مناسباً الخوض فيها , نهنئ شعبنا بالجيش السوري الحر الذي حطم القيود ولم يرضخ للضغوط ليقول : نعم للثورة لا للظلم . 

السابق
الجمهورية: مجلس الوزراء لم يقارب التمويل… وإضراب تربوي اليوم
التالي
الاخبار: الموازنة في حالة موت سريري