ثورات الشعوب والموقف من أميركا والغرب

 كلما خرجت معارضة في بلد عربي صرخوا في وجهها: أنتم تخدمون السياسة الأميركية.. أنتم عملاء أميركا واسرائيل التي تريد إضعاف هذا النظام أو ذاك..لأن هذا النظام أو ذاك هو من أركان الممانعة وهو الداعم الرئيس للمقاومة.. هكذا ببساطة وبجرة قلم.. يريدوننا أن ننسى التاريخ وأن ننسى العذابات والنضالات التي خاضتها وتخوضها قوى وشخصيات شريفة ضد الظلم والإستبداد وضد الصهيونية والاستعمار…ويريدون أن ننسى من كان وما يزال يراهن على صداقته مع أميركا والغرب وعلى عدم حربه مع اسرائيل! نعم: من كان طفل الغرب وأميركا المدلل طوال عقود ومن كان يقدم للغرب شهادات حسن السلوك ؟؟
أما نحن فقد قلنا ونقول إنه لا توجد دولة في العالم تحظى بكراهية الشعوب أكثر من أميركا. والسبب بالطبع ليس الحسد أو ضيقة العين (على ما كان يقول العبقري جورج بوش) ، وإنما سياسة العدوان والظلم والعنجهية والغطرسة التي تمارسها أميركا والتي تتبدى أكثر ما تتبدى في الكيل بمكيالين حيال قضية فلسطين..وآخرها ما يحصل اليوم في مجلس الأمن..
إلا أن هذا الموقف الثوري والأممي والإنساني لا يجعلنا نقف في خندق واحد مع غربان الشوم والبوم الناعقين في كل غربال.. وإنما يملي علينا واجب الوضوح والصراحة والوعي عملاً بحكمة الإمام علي، يوم رفع الخوارج في وجهه شعار "لاحكم إلا لله" فقال قولته الشهيرة: "كلام حق يراد به باطل"…نعم كلام حق يراد به باطل..هذا ما آل إليه اليوم شعار معاداة الامبريالية والصهيونية على يد بعض المثقفين والسياسيين العرب.. إن العداء للسياسات الاميركية الظالمة ومقاومة مفاعيلها في فلسطين لا يعني الوقوع في فخ مديح الاستبداد والدعاء له بطول العمر…فالدرس الأول الذي تعلمناه من تجارب الشعوب ومن تجربة فلسطين ولبنان خصوصاً هو أنه لا مقاومة ولا ممانعة في ظل القمع والإرهاب والسجون والمعتقلات والتخوين والتكفير… نعم وللمرة المليون لا ممانعة ولا مقاومة حقيقية دون ديموقراطية وحرية وكرامة..
كلّ الشعوب وكلّ القوى المحبة للعدالة والسلام، وكلّ الباحثين مثلنا عن منطق واّلية للتغيير من أجل الحرية والكرامة والديموقراطية والتقدم، يعلمون أن المهم والمطلوب هو صياغة إستراتيجية مواجهة حقيقية، وبناء تضامن فاعل، وذلك من أجل عالم جديد مختلف يقوم على الحق والعدل وعلى التعاون والاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة، لما فيه خير البشر والبشرية .وأساس العدالة ومعيار الحق كانت وما تزال: فلسطين..ولكن هذا المعيار لا يجعلنا أيضاً نصفق للظلم ونرحب بالاستبداد ولا يجعلنا نكيل بمكيالين… الحرية والعدالة لفلسطين تعني الحرية والعدالة والكرامة لكل وطن وبلد عربي من المحيط الى الخليج..
لقد كان همّ الثوريين والوطنيين واليساريين والاسلاميين العرب على الدوام وفي أصعب المراحل والمحطات (خصوصاً في عزّ الحرب الباردة) الحفاظ على إستقلالية القرار الوطني الفلسطيني والقرار الوطني اللبناني والقرار العربي التضامني .. فلم يقعوا في براثن التوظيف والإستخدام (القابلية للاستعمار بحسب قول المرحوم مالك بن نبي، أو الإستحمار على حدّ وصف الشهيد علي شريعتي).. نعم! هذا ما تعلمناه من تجربة أبو عمار وأبو جهاد وأبو أياد وجورج حبش ونايف حواتمه وأحمد ياسين في فلسطين.. وهذا ما تعلمناه من كفاح وشهادة فرج الله الحلو ونقولا الشاوي وجورج حاوي وكمال جنبلاط في لبنان.. وهذا ما تعلمناه من تجربة الثورة الاسلامية الايرانية الشعبية المدنية وأركانها الكبار الشهداء السيد الخميني والسيد طالقاني والشيخ مطهري والشيخ منتظري والشيخ بهشتي والرئيس باهونار والرئيس رجائي.. والأصدقاء الأحياء الرؤساء رفسنجاني وخاتمي والسادة علي أكبر محتشمي وبهزاد نبوي وعبدالله نوري ومير حسين موسوي ومهدي كروبي وموسوي خوئينيها وهادي خامنئي وسعيد حجاريان ومحسن كديور وأكبر غانجي وحميد رضا جلايبور وعباس عبدي ومحسن أرمين وماشاءالله شمس الواعظين وعلي ربيعي ومحمد سلطانيفر ومصطفى تاجزادة ..
إن المنطق الثوري الصحيح، منطق اليسار الحقيقي، ومنطق الاسلام الحقيقي، منطق الشعوب وحركات التحرر والتغيير، يتمثل في صياغة سياسات مبدئية واضحة مستقيمة مستقلة حيال الوضع الدولي، تقرأ المتغيرات، وتبني على الثوابت، تستفيد من المتناقضات والصراعات دون أن تتنازل عن الحقوق، تتعامل مع الواقع كما هو متمسكة بالمصالح الوطنية والقومية وبالمبادىء والقيم الانسانية .
إن الإستفادة من الوضع الدولي ليست عيباً، إنما العيب هو في تمزيق الوحدة الوطنية ونحر السلم الأهلي، وفي قمع المواطنين وتشريد المناضلين.. فلا عروبة ولا ثورة ولا يسار ولا تقدم ولا إسلام ولا مسيحية ، دون وطن حر ودون شعب كريم.. إن هدف أي نضال هو الناس أولاً وأخيراً: حريتهم وكرامتهم.. وإلا فإن النضال يكون رقصاً على دماء الشهداء في أقبية المخابرات وزنازين التعذيب..
إن القول بأن علينا رفض ومحاربة كل ما تؤيده أميركا أو أوروبا هو قول سخيف ومخيف في آن معاً! سخيف لأنه ضد العقل والمنطق ومخيف لأنه يقترن بالتكفير والتخوين وبالتصفية والقمع..
هو موقف ضد العقل والمنطق لأننا أولاً لا نزر وازرة وزر أخرى (قرآن كريم).. ولأننا ثانياً نعرف كيف نميز بين تناقض رئيسي وتناقض ثانوي وتناقض أساسي (ماوتسي تونغ)..ولأننا ثالثاً نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا (عبد الناصر).. ولأننا في كل الأحوال من دعاة التحرر والاستقلال.
وهو موقف مخيف لأنه كان الحجة والمبرر لكل أعمال الاغتيال والقتل والتصفية الجسدية للخصوم السياسيين وآخرها ما حدث في لبنان (2005-2008)..
والحال أن السؤال الحقيقي الذي نسأل أنفسنا ونسأل الجميع هو نفس سؤال جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان : لماذا تأخرنا وتخلفنا في حين تقدم غيرنا (أي الغرب) ؟؟ هل صحيح أن السبب هو (فقط) ضراوة وشراسة الهجمة الامبريالية والصهيونية على بلادنا؟؟ إذن لماذا وكيف استقلت وتحررت وتوحدت وتقدمت تركيا وايران ؟ الجواب واضح بسيط: لا يُغيّر الله ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم…وما بأنفسنا وعقولنا وما بمجتمعاتنا وأوضاعنا هو داء الإستبداد .. والأخطر في هذا الداء انه يجد من يبرره تحت شعارات وعناوين ما أنزل الله بها من سلطان من مثل أن المستبد العادل (ومع ذلك ننسى العادل دائماً) ضروري لنظم أمرنا..وأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد العدو (ولا نسأل عن هذه المعركة أصلاً: كيف ومتى وبأية أدوات نخوضها)…. والحال ان الهزائم لم تكن لتحصل أمام العدو لولا الاستبداد (بحسب الافغاني وعبده وأرسلان ورضا) ولولا الاستحمار (بحسب علي شريعتي) ولولا القابلية للاستعمار (بحسب مالك بن نبي) ، أي لولا تأليه القادة والزعماء والأحزاب على حساب الامة والشعب والناس… ستون عاماً وأكثر.. لا بل مر قرن بكامله … ونحن في السجن الكبير: سجن الاستبداد والديكتاتورية في ظل إمرة او ولاية السفهاء المستبدين الظالمين..
ستون عاما وأكثر ونحن ننتظر… ننتظر الذي يأتي ولا يأتي ..فلا عدالة ولا حرية ولا كرامة ولا مساواة .. بل عقود من الظلم والاذلال والافقار والتهميش والتجويع والتشريد …
الخارج المعادي يتربص بنا ويمنع تقدمنا ويعرقل وحدتنا ويجهض ثوراتنا.. ولكن هل هو كاريتاس ننتظر منه أن يساعدنا أو أن يتركنا بحالنا؟؟ أم أن المشكلة هي فينا نحن؟؟ في أنظمة الذل والعار والشنار وفي أحزاب الهزيمة والاستبداد والنهب والسلب ؟؟ وهل يعقل أن نقارع الامبريالية والصهيونية عبر قتل الابرياء وترويع الناس وارهابها ؟؟ هل يعقل ان لا نعطي أية قيمة للانسان، لحياته وكرامته وحريته وحقوقه، فيما نحن نرفع لواء الاسلام والعروبة والثورة واليسار والاصلاح والتغيير والتنمية والتحرير؟؟
نعم لا معنى لأي ثورة ومقاومة ونضال ويسار ولأي تنمية وإصلاح وتغيير ولأي إسلام وتحرير إن لم يكن من أجل الانسان : حياته أولاً ثم كرامته ثم حريته ثم حقوقه في الأمن والأمان وفي الاستقرار والازدهار… نعم هذا هو خط الفصل بين الاسلام الحقيقي واسلام الادعياء المزيفين… بين الثوريين الحقيقيين والثوريين المزيفين.. بين العروبيين الاقحاح وعروبيي آخر ساعة وآخر لحظة…هذا هو معنى الاسلام المحمدي الأصيل لا اسلام دول الغلبة والاستيلاء والاستبداد ،ومعنى التشيع العلوي لا التشيع الصفوي ،ومعنى الديمقراطية والليبرالية لا الاستعمار والامبريالية، ومعنى اليسارية والاشتراكية لا الانتهازية والستالينية….لا يمكن ان نتقدم من دون حرية وديموقراطية وكرامة وعدالة..لا يمكن الانتصار من دون الناس، البسطاء الشرفاء، من دون تضحياتهم ووحدتهم وهذا لا يحصل ان كانوا في سجون الذل والفقر والجوع والمهانة والهامشية والقمع والتنكيل والخوف والتشريد…هذا هو معنى التكريم الإلهي لبني آدم ومعنى قول السيد المسيح إن السبت (الدين) وجد لأجل الانسان وليس الانسان لأجل السبت..
ان معيار تقويمنا لأي وضع يبقى دائماً هو الناس والعدالة والكرامة والديموقراطية والحرية والوحدة والتضامن فهذه وهذه وحدها هي اسس الممانعة الحقيقية والمقاومة الناجحة… وبدونها سلام على الثورة وعلى المقاومة … وخلاصة القول انه لا يجوز اتهام وادانة الحركات الشعبية والاجتماعية والاصلاحية بانها عميلة للخارج لمجرد كون النظام يرفع لواء العداء للخارج…لا معنى لشعار وقف كل تحرك داخلي بحجة التفرغ لقتال العدو الخارجي…
نعم للمقاومة المدنية الديموقراطية العربية ضد الاستعمار والاستحمار.. نعم لصوت الفقراء والمستضعفين والمعذبين في هذه الأرض، يطلع من رحم المعاناة التي استمرت لعقود.. نعم للتضامن العربي الحقيقي، تحت سقف موقف واضح حازم يدعم فعلاً شعب فلسطين لقيام دولته الحرة المستقلة القابلة للحياة وعاصمتها القدس، وعلى أساس دعم كل شعب عربي من أجل حرية بلده ووحدة وطنه، ومن أجل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة بين أبنائه…
نعم.. إن عالماً مختلفاً هو أمر ممكن، وإن لبنان جديداً مختلفاً هو حلم وأمل، وإن عالماً عربياً جديداً ومختلفاً، ديموقراطياً، مستقلاً، متحرراً، هو أمر ممكن.. ونحن قادرون على إنجاز ذلك، معاً.. بالصبر والنضال الطويل، بالوعي والوضوح، بالممارسة الأخلاقية والأهداف الإنسانية، بالوسائل النبيلة، بالسياسات الصحيحة التي لا تبيع الناس والشهداء والقضية…
 

السابق
«حزب الله» لن يبقى حكرا على فئة!
التالي
«حزب الله» و«الإخوان المسلمون»: أين يختلفان وأين يلتقيان؟