إبرة وهاب «المغبغبي» وعشاء جنبلاط الباريسي

 حين كان وئام وهاب يفتتح مشروعه الخدماتي في الشوف قبل يومين، كان ثمة فصل أساسي من تاريخ لبنان المعاصر، وفصل آخر من مستقبله القلِق والمحتمَل، ينفتحان على صفحة ذلك الحجر الأساس.
كأن ابن قرية الجاهلية المتواضعة، وهو يدشن شراكته الخدماتية مع أبناء البكوات، من الندّ الى «الندّين»، كان يستذكر واقعة ذهاب كمال جنبلاط للتعزية بوفاة زلفا كميل شمعون. يروى أن سيد المختارة كان متأثراً حزيناً. غير أن ما فاجأ مرافقيه أنه أطال الجلوس، كأنه من أهل بيت خصمه اللدود.

حتى لفته أحدهم الى ذلك، فأجابه: للسيدة زلفا دين علينا. عقب انتخابات عام 1957، وحدها سعت مع زوجها الرئيس إلى التريث في إعلان النتائج، سعياً إلى ما يجنبنا ظهور الهزيمة… علماً أننا كنا قد سقطنا يومها أولاً بأصوات الناس الذين ابتعدنا عنهم، فتقرب منهم نعيم مغبغب بخدماته وحقيبة الأشغال التي لم يشغلها لأكثر من سنة، بين أيلول 1954وأيلول 1955.
وكأن الجنبلاطيين كانوا يدركون في سرهم تلك الحقيقة. وهو ما ولّد، ربما، في نفوسهم هذا الحقد الدفين، الذي جعلهم تلك العشية من تموز 1959، ينقضّون على نعيم مغبغب بالخناجر والمِدى على أبواب بيت الدين، فيقتلونه ببربرية، على مرأى من قائد الجيش ورئيس أركانه، و«في حمى الأمير»، كما سطّر تلك الليلة ميشال أبو جودة، بحبر قلمه، والأكثر بدم يديه اللاحق.
بعدها صارت حقيبة الأشغال، أو ما يوازيها، شرطاً لمشاركة سيد المختارة في الحكومة. وصار الزعيم «التقدمي الاشتراكي» مدمناً لائحته المعروفة في زياراته الأسبوعية لقصر الرئاسة. اللائحة التي تبدأ بالمطالبة بالاعتراف بالصين الشعبية، وتنتهي بتعيين شاويش في آخر «مخفر درزي». حتى شاعت مقولة فؤاد شهاب له، فور سحبه لائحته من جيبه: الأفضل أن تبدأ من البند الأخير…
غير أن جنبلاط الابن ذهب أبعد في اللعبة، بعدما توافرت له كل مقتضيات احتكارها: الحرب، وتراجع الزعامات الدرزية الأخرى، والخدمات الجليلة التي أسداها إليه أخصامه المسيحيون، والتي كرسته زعيماً أوحد للدروز، وسيداً مطلقاً لانتشار جغرافي متواصل، يتحكم في لبنان وفي نظامه. غير أن الأخطر في لعبة جنبلاط، هو ما يستسهل ارتكابه لتأبيد زعامته الإقطاعية، من عوامل قد تفجّر كل الوطن. منها إصراره على ضرب الوجود المسيحي في الجبل. وهو ما نفّذه على نحو منهجي مدروس ومستمر، من دون أي فهم للحقائق التاريخية للجبل نفسه وللبنان. حتى انتهى بعد ثلاثين عاماً ونيف الى الكارثة. فبين آذار 1977 وأيار 2008، أجهز جنبلاط بالكامل على «الحزام» المسيحي الجبلي. فوجد نفسه مباشرة في مواجهة جبهية مع المكونات الأخرى لجبل لبنان، فكان 7 أيار وكانت الكارثة. لا لشيء، إلا لأن هناك من يجهل طبيعة حراك الجماعات اللبنانية المؤسسة للكيان: كيف تتآلف وكيف تتنافر، ومن القادر على أداء دور عامل التوفيق والتوليف في ما بينها؟
ارتكاب آخر دأب عليه جنبلاط الابن منذ ثلاثة عقود أيضاً، هو «السكوت» عن واقع إفقار الجماعة الدرزية، مع ما ينتج عن هذا الإفقار. حتى إن دراسات سوسيو ـــــ اقتصادية تشير إلى أن الدروز، في ظل الزعامة الجنبلاطية الحالية، تحوّلوا الى الجماعة الأكثر فقراً في لبنان. (يليهم الروم الكاثوليك الملكيون، الذين كانوا الهدف الأقسى نسبياً للتهجير الجنبلاطي!) والأهم أن الدروز تحوّلوا في هذه الفترة من كونهم مجتمعاً يعيش على الاقتصاد المنتج، كبيئة قائمة على الزراعة أو الحرف العائلية أو الصغيرة، إلى الاقتصاد الريعي، لا بل النفعي، على قاعدة «الاعتياش» من المال العام، عبر أبوابه الجنبلاطية المعروفة والمحتكرة. هكذا، صادر جنبلاط في كل الجبل المخفر والمدرسة والمستشفى والتنظيم المدني وكل أنشطة الدولة وموارد الحياة العامة كافة، من أجل أن يضمن زعامة ترافقت طيلة ثلاثين عاماً، مع استدامة توليد الأزمات والحروب في لبنان…
كان يحلو لجوزف سماحه تكرار رواية عن عشاء باريسي جمعه ذات يوم مع «رفيقه» وليد جنبلاط. كانت مضيفتهما سيدة فرنسية جليلة، من الحرس القديم في الحزب الفرنسي الاشتراكي. رافقت أيام ميتران وروكارد والرفاق، وتضمّخت بفكر فلاسفته من سان سيمون الى جوريس. خلال العشاء كانت «المناضلة» تحاول التعرف الى جوانب «ديموقراطيتنا اللبنانية» والسمات المشتركة بين ثقافتها و«اشتراكيتنا الخاصة»، وذلك عبر أسئلة توجهها الى جنبلاط. غير أنها لم تجد إلا أجوبة تراوح بين العبثية وبعض النزق. حتى سألته بعصبية ظاهرة: وماذا تفعل أنت في الحياة؟ فأجابها: عملياً لا شيء. تابعت بدهشة: وكيف تعيش؟ فرد هازئاً: ورثت عن والدي حزباً اشتراكياً، يكفيني مع عائلتي لنعتاش منه!
كل هذا كان حاضراً في احتفال وئام وهاب، ولو على طريقة حفر الجبل، برأس إبرة. 

السابق
الفتوحات الإيرانية تنطلق!
التالي
الثــورة السـوريــة مـوديــل ســواطيــر- 2011