هل مصر تفقد السيطرة

 ذات مرة لم يكن الأمر هكذا. العلاقات بين المسلمين والمسيحيين تميزت بالتسامح. في رسالة بعث بها نبي الاسلام في القرن السابع للمكوكس، ملك الاقباط في مصر، حاول محمد اقناعه بدخول دينه. فرد عليه الملك القبطي: "قدمت الاحترام لرسولك، وبعثت اليك بأرنبتين لهما مكان شرف لدى الاقباط. كما بعثت بملابس وكذا بعثت اليك ببغل لتركبه، والسلام عليك". المكوكس لم يستجب لدعوة الاسلام.
علاقات طيبة حتى أكثر من هذه كانت لمحمد مع ملك الحبشة المسيحي، النجاشي. بل ان محمد بعث اليه ببعض ممن كانوا من أوائل من دخلوا الاسلام وتعرضوا للاضطهاد في مكة، كي يبقوا برعايته احتياطا ولجوءا.
في وقت لاحق، بين اعوام 639 و 641 احتل المسلمون مصر. وحسب الرواية الاسلامية، تم الاحتلال في ظل الاستعانة بالاقباط ممن عانوا من علاقاتهم المهزوزة بينهم وبين الكنيسة البيزنطية.
الاحتلال الاسلامي ضمن في ذاك الوقت حق المسيحيين في الحفاظ على دينهم، مقابل دفع الضريبة. بعد مائة سنة تقريبا من ذلك كانت لا تزال أغلبية السكان المصريين أقباط. ولاحقا فقط حين هاجرت قبائل عربية الى مصر، تزوج هؤلاء بالمحليين. في القرن العاشر، بتأثير الحملات الصليبية، اجبر العديد من الاقباط على الاسلام، وهكذا تحول الاسلام الى الدين الاكثر انتشارا في مصر.
منذئذ مرت على الاقباط تحولات عديدة. حياتهم، التي كانت تخضع للتمييز في كل مستويات الحياة والاعتداءات في عشرات السنوات الاخيرة، أصبحت جحيما، ولا سيما في أعقاب "ربيع الشعوب العربية".
لم تجدي نفعا التصريحات القومية – الوطنية التي أطلقوها، مثل تصريح البطريارك شنودا الثالث ضد اسرائيل، ومساهمتهم في التعليم، الاقتصاد، الجيش، السياسة وكل مجالات الفعل في مصر. تحريض "الاخوان المسلمين" و "السلفيين" لا يتوقف ويؤدي الى أن تحترق كنائس باستمرار، وتختطف وتغتصب بناتهم وابناء الطائفة يقتلون بالعشرات، مثل احراق الكنيسة في أسوان، وقتل عشرات المسيحيين على أيدي المشاغبين مؤخرا. وبشكل عام تحقيق السلطات في مصر مغلق باستمرار بـ "عدم سواء عقل" المنفذين.
السلطات في مصر تفقد السيطرة. ويجد الامر تعبيره، ضمن امور اخرى، في الاخفاق في حماية السفارة الاسرائيلية، في عدم كبح جماح المشاغبين الذين يعملون بالزعرنة وبالسلب والنهب في الميادين. وبالارهاب وبتفجير انبوب الغاز في سيناء.
اضافة الى الفوضى، لحق بمصر ضرر اقتصادي وسياسي هائل ينبع من المس بالسياحة، فرار المستثمرين وتعريض أرباح القناة للخطر. التغيير الذي طرأ على طابع المظاهرات وتحولها الى عربدة متطرفة يضع ايضا خطر سيطرة محافل الارهاب المدفوعة بمصالح غريبة.
في فترة مبارك أعربت مصر عن الاحتجاج على تدخل البابا بندكتوس السادس عشر في "الشؤون الداخلية لمصر" بسبب المس بالاقباط. فالمسلمون المتطرفون غير مستعدين لقبول تواجد المصريين "الكفرة" على أرض مصر. وهم يتجاهلون أن الاقباط، الذين يعدون بين 10 و 15 مليون بل وربما أكثر (الحكومة تخفي عددهم الحقيقي)، هم السكان الاصليون لمصر وعلى ما يبدو هم من سليلو الفراعنة.
من ناحيتهم، مصر هي بلاد اسلامية. ولما كانت هكذا، فبفهمهم، تواجد الاقباط في الدولة وعزلتهم الدينية يخلقان "دولة داخل دولة" وتحدٍ للاسلام. هكذا يتمسك المسلمون المتطرفون باحداث مختلفة مثل عدم وجود رخصة بناء لكنيسة، او اشتباه باخفاء مسيحية تأسلمت – كأسباب لاثارة المذابح بحق الاقباط، سلب أملاكهم واحراق كنائسهم.
ضغط على المجلس العسكري
ومع كل هذا، يبدو أن السلطات المصرية استوعبت أن الخطر النابع من انعدام الاستقرار يضعف منظومة العلاقات الاقليمية المؤيدة لامريكا وغنية المساعدات، ويقوض اتفاقات السلام مع اسرائيل. وتجدر هذه الامور تعبيرها في الضغط على المجلس العسكري الاعلى والحكومة المصرية المؤقتة لفرض النظام في الدولة. في خلفية هذا الاستعداد توجد شائعات تتهم المجلس في أنه معني بتدهور الوضع كي يظهر كمخلص للشعب فيتخلد حكمه. ناشرو هذا الادعاء يشرحون ذلك بحقيقة أن السلطة لا تعالج قصورات العنف وتتلبث في التدخل وفي تقديم المساعدة.
وكبديل تتعاظم الشائعات عن تعاون المجلس بالذات مع الاسلاميين. مهما يكن من أمر، في اطار محاولات رئيس الوزراء عصام شرف وقف التصعيد للمس بالاقباط فانه يعرض هذا الفعل العنيف بانه يخدم مصالح أجنبية، هدفها اثارة الفتنة، الحرب الاهلية وذلك لدفع مصر نحو الانهيار.
والمس بالمسيحيين يميز سلوك المتطرفين الاسلاميين في الشرق الاوسط بشكل عام. تجربة المسيحيين في أن يخلقوا في الدول المجاورة أطرا سياسية قومية كبديل عن الاسلام لم تنجح.
في منطقتنا وجد الامر تعبيره على نحو خاص في بيت لحم، حيث تضرر المسيحيون بشكل شديد منذ انسحاب اسرائيل. ولكن لا يزال، في كل عيد مسيحي تتعرض بنات المدينة المسيحيات للتنكيل الجنسي الفظ من السكان الجدد للمدينة والبدو من عشائر التعامرة.
تسلسل الامور كما عرضه الاسلاميون تجاه اليهود والمسيحيين كان دوما على النحو التالي: في البداية ننهي السبت (اليهود) وبعد ذلك ننتقل الى الاحد (المسيحيين). ومع ان الدينين العتيقين يعتبران "ديني كتاب"، فان نهايتهما حسب المتطرفين الاسلاميين ان يتأسلما أو ينتهيا. يخيل أن في مصر تغير تسلسل الامور، ولكن لا ينبغي لنا أن نخطيء في فهم النوايا.
تجاهل الاسلام لاسبقية الاقباط، سليلي بناة الاهرامات، وحقهم في هوية خاصة بهم يشرح أيضا الرفض الفلسطيني – الاسلامي الاعتراف باليهود بناة القدس العتيقة واسرائيل، كدولة يهودية ذات جذور قديمة.
من زاوية نظرنا فمن جهة، ما لنا أن نطلب من جنين منشق ومتنازع لم يولد بعد ان يعترف بنا. من جهة اخرى، يجدر بالعالم المسيحي، ولا سيما في اوروبا المزايدة، ان يتعلم الدرس الذي يلقن الان للاقباط، كي يتمكن من صد الشر في وطنه.
عندنا أيضا، كدرس من اعمال الشغب في مصر، يجب نصب اشارة تحذير كبيرة في ضوء السلوك الاجرامي لمجموعة الزعران اليهود الذين يعملون ضد المساجد والمواطنين العرب. ومثل الراديكاليين الاسلاميين في مصر، فان هذا العنف ضد الاقليات يأتي من ذات المكان المظلم.
فضلا عن الاضرار الاجرامية بالاملاك وبالنفوس، يخط العمل المتصاعد لاولئك المتطرفين مسارا خطيرا يضعضع صلاحية السلطات ويمس بمصالح الحكم المركزي الديمقراطي. يجب اجتثاث هذا الوباء بسبب الضرر الذي يلحقه عمل هؤلاء الارهابيين بنسيج التعايش في البلاد وبصورة اسرائيل المتنورة بين الامم. 

السابق
عتب شديد من حزب الله على جنبلاط: “استغلّ منبرنا للتحامل على الأسد”!
التالي
بيبي ابننا جميعا، وبيرس ما يزال حيا