إنتهت مرحلة البالونات الكلامية وحان وقت الأفعال: تمويل أم لا تمويل؟ والمنازلة التي تبدأ غداً داخل البيت الحكومي، حاول الشركاء التهرّب منها، لكنهم وصلوا إليها إضطراراً في مناقشة الموازنة.
رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لا شيء يثنيه عن دعم التمويل، تحت أي ظرف. ووزير المال محمد الصفدي يحجز في الموازنة مكاناً للتمويل، تحت بند الوفاء بالمتأخرات والمستحقات للمحكمة. لكن "حزب الله"، ومعه العماد ميشال عون وسائر الحلفاء، يستعدّ لمعركة الثأر من المحكمة التي بدأت تستهدفه تدريجاً بقراراتها الإتهامية.
على مدى الأسابيع الأخيرة، بقيت التوقعات تتقاطع على ان "حزب الله" وحلفاؤه لن يضحّوا بـ "حكومتهم" في ظرف عصيب داخلياً وإقليمياً، من أجل رفض التمويل، خصوصاً ان عدم تأدية لبنان حصته لا يعطّل المحكمة. كما يمكن حتى إشعار آخر تسجيل المبالغ المتراكمة في ذمة لبنان، دَيْناً عليه.
"التطويل" مخرج التمويل!
هذه النظرية "المتفائلة" ما زالت قائمة، خصوصاً في ضوء معلومات جرى تداولها أخيراً عن رغبة لدى دمشق في عدم خلق إشكالات سياسية أو دستورية في لبنان خلال هذه المرحلة، بما يضيف المتاعب للنظام. وتردّد ان هناك إشارات سورية الى الحلفاء في لبنان بتمرير لغم التمويل حالياً "بالتي هي أحسن".
ويكشف معنيون بالملف ان المخرج الذي يتمّ التحضير لإعتماده في ملف التمويل يقوم على الآتي: يتولّى رئيس الحكومة، وفي إطار توافق ضمني بين أركان السلطتين التشريعية والتنفيذية، إطالة أمد المناقشات للموازنة إلى أسابيع، أو ربما الى أشهُر تحت عناوين مختلفة، وترك مناقشة بند التمويل الى نهاياتها، فلا تؤدي الى ضرب الحكومة وإسقاطها باكراً. وفي عبارة أكثر وضوحاً، يجري في مناقشة الموازنة تطبيق سيناريو جلسات الحوار المتباعدة، ما يتيح تأجيل المشكلة الى أجَل غير مسمّى، أي ريثما تطرأ تطورات قد تأتي بالحل. وهذا المخرج ينقذ الجميع، وإن زاد من الضغط الذي تمارسه المحكمة، بسبب إقتناعها بوجوب إتمام المتوجبات خلال شهر من اليوم.
فميقاتي عبّر في وضوح أمام أوساطه عن إلتزامه المحكمة قبل الحكومة، وإذا شاءت الظروف الإختيار بينهما، فإنه يفضل الإستقالة على النكوث بتعهداته الدولية. ويدرك ميقاتي حجم الثمن الذي يدفعه كرجل أعمال وكرجل دولة وكسياسي سنّي، إذا ما تخلّى عن هذه التعهدات. وسيكون من المناسب له ولحكومته حالياً تأجيل كأس الإستقالة قدر الإمكان.
ويرى بعض الأوساط ان "حزب الله" يستعدّ للمواجهة الحقيقية مع المحكمة، ولكن ليس اليوم في التمويل، بل في آذار مع التمديد لبروتوكول العمل مع هذه المحكمة. ومن شأن تمرير الوقت في مناقشة الموازنة أن يتيح لـ"الحزب" المساومة مع ميقاتي على مكاسب أخرى في المحكمة وخارجها. فهو يعتقد أنه "سلّف" رئيس الحكومة عددا من التنازلات مراضاة له، ولكن آن الأوان لكي يردّ ميقاتي بمبادرة تجاه "الحزب"، الذي جاء به اليوم الى السراي، ووفّر له دعماً سياسياً.
وستؤدي المماطلة في حسم بند التمويل الى تأخير المواجهة لتقترب زمنياً من معركة التمديد، الذي سيكون لغماً لا يقبل التسويف والتأجيل: لغماً داخلياً في الحكومة، ولغماً مع المجتمع الدولي ومجلس الأمن. وسيكون هناك مزيد من المآزق أمام الحكومة، في ضوء الصدور المتوقع للقرارات الإتهامية في الملفات الي تم ضمّها الى جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري، أي محاولتي إغتيال نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع السابق الياس المرّ والنائب مروان حمادة، وإغتيال الأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي.
كلفة بقاء الحكومة
كيف سيواجه أطراف الحكومة الحالية هذا الإستحقاق الخطر في آذار؟
المعنيون يرون ان الحكومة ستفقد هوامش المناورة، وستنفجر لدى وصولها الى هذه اللحظة. فـحزب الله وحلفاؤه الإقليميون سيجدون أن كلفة بقاء الحكومة باتت تفوق كلفة تطييرها، وان من الأفضل إضاعة المسؤوليات أمام المحكمة والمجتمع الدولي وإلتزاماته ومطالبه، بتحويل الحكومة حكومة تصريف للأعمال. وهذه الوضعية ستريح ميقاتي أيضاً، لأنها ستظهره حريصاً على التعهدات، لكنه غير قادر على الوفاء بها. ولن تكون هذه الوضعية سلبية في نظر فريق 14 آذار، لأنها تكون قد كشفت التحالف المصطنع داخل الغالبية الحالية، وأظهرت للمجتمع الدولي حقائق جديدة عن بعض القوى الداخلية، وأتاحت خلط الأوراق مجدداً في لبنان.
لكن المأزق خطر، سواء بتطيير الحكومة أو بقائها. فالمحكمة أُنشئت وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. كما أن الفترة التي تفصل عن المنازلة الأصعب، بدءاً من مطلع السنة المقبلة، ستكون حافلة بالتطورات، في الملف السوري خصوصاً، الى حدود غير محسوبة.