بين العمارة والبصرة وعائلة حنا الشيخ

وُلدت في البصرة، لكنني نَموت وترعرت في العمارة. في كل تلك السنوات، أثناء دراستي في المدينتين وتنقلي بينهما، كنت مثل من يحاول التوفيق بين هذه المدينة وتلك. صحيح أن هناك ما يفرق بين المدينتين الجنوبيتين، عراقة البصرة مثلاً وقدمها في التاريخ من جهة، وحداثة العمارة التي بُنيت أولاً في منتصف القرن التاسع عشر على شكل سرادق عثماني لحماية القوافل من هجمات اللصوص من جهة أخرى؛ أو أن البصرة ميناء العراق والعمارة مدينة حدودية لا غير، لكن ما جمع الإثنين وفي المقام الأول، هو أن المدينتين أسستا صرحهما على تنوع السكان، حتى أصبحتا مركزا لأقوام وطوائف وملل وأديان: كان هناك الصابئة المندائيون، اليهود، المسلمون بشيعتهم وسنتهم، والمسيحيون من كلدان وآشوريين وأرمن وتلكيفيين. كان هناك عرب وأكراد وتركمان وفيلية.. وإنكليز، سواء في مقابرهم الإنكليزية، أمواتاً ومعهم جنود، من هنود وأفغان واستراليين، أو أحياء على شكل خبراء يأتون من وقت إلى آخر، بل كان هناك حتى بقايا مواطنين برتغاليين جاءوا في بداية القرن الماضي.
عندما تعرض الأساس الذي اعتمدت عليه الدعامات التي ارتفعت عليها المدينتان للثلم، عندما سقطت هذه الدعامات الواحدة بعد الأخرى ونزح عنهما سكانهما الذين بنوها حجرًا على حجر، عندما طوقتهما الحروب، أفل نجم المدينتين. جفت أنهرهما، وقبلهما مات نخيلهما وبالملايين. لا أريد الحديث هنا عن كل ما حفظته في ذاكرتي عن المدينتين كما عرفتهما، عن إزدهارهما واندثارهما، عن توزعي في الإنتماء لهما، بين بيت جدي من جهة أمي مفتش التمور في شركة التمور العراقية في البصرة، في المعقل، وبين بيت جدي من جهة أبي، بستنجي المقبرة الإنكليزية في العمارة، بل أريد الحديث عن عائلة حنا الشيخ التي عرفتها أولاً في العمارة، قبل أن أراها لاحقاً في البصرة وفي منطقة العشار تحديداً، خلف عمارة النقيب، على شكل سوق حنا الشيخ.
العمارة التي كانت مثل العديد من المدن الحدودية في العالم، تحولت في منتصف القرن العشرين إلى مركز تجاري كبير، شجع التجار على التوافد إليها من جميع أنحاء البلاد، سهولة الكسب التي جعلتهم ينتقلون مع عوائلهم ويقيمون فيها: عوائل كبيرة من السوامرة والشخلية والنجادة وأهل الموصل والأنبار وغيرهم من أهالي كل تلك المناطق الذين أطلق عليهم الناس في الفترة الأخيرة، أهالي مناطق الغربية. بعضهم ما زال موجودًا والبعض الآخر نزح من جديد. إحدى تلك العوائل وأشهرها، عائلة حنا الشيخ. صحيح أنني رأيت قصر هذه العائلة الذي إرتفع مثل حصن في وسط المدينة على شارع دجلة، في نهاية الستينات أولاً، عندما أصبح مسموحاً لي الخروج في المدينة والجلوس في مقاهيها، إلا أنني سمعت عن العائلة وأنا طفل، قصصاً كثيرة: منها وراثتهم تجارة النقل النهري والعمل في الموانئ من شركة لنج المشهورة، أو أن إلغاء الإنكليز لخط سكة الحديد الذي ربط البصرة بالعمارة، ساعد في صعود نجم العائلة هذه التي جاءت نازحة مثل عوائل مسيحية أخرى من الموصل، أو قصة رسائل التهديد التي كانت تُلقى عند عتبة بيت حنا الشيخ، والتي تطالب بدفع فدية بمبلغ كبير، وإلا ستتعرض ابنتهم للاختطاف، والتي ظهر لاحقاً أن ليس غير صديقنا رحمن أو شاكر، الرسام الاستثنائي، الذي ألقى بنفسه في أواسط السبعينات من الطابق العاشر ببناية الطلبة العرب في شارع الجمهورية، وغيرها من القصص. صحيح أن عائلة حنا الشيخ إختفت، واختفى معها العديد من العوائل، إلا أن روائياً مثلي، لا يريد لهذه القصص الاندثار، سيصر على التذكير بها، كل مرة ومن جديد. هذا ما فعلته في كل رواياتي ومجاميعي القصصية، إعلان الحرب على النسيان، ولكن ماذا يستطيع كاتب أعزل مثلي أن يفعل غير ذلك، سلاحه الكلمات لاغير في الحرب الدائمة هذه في العراق؟ اقول ذلك، وأنا أقرأ قبل ايام ما كتبه الصحافي سرمد الطائي في جريدة العالم، عن فرحته للأثر الذي تركه حواره مع جوزيف حنا الشيخ، إبن العائلة العريقة الذي يعيش في لندن على ما أظن. سرمد تحدث عن سعادته وهو يقرأ التعليقات عن مقاله الصغير، فأي حزن سيشعر به واحد مثلي، يكتب رواية بـ672 صفحة (ملائكة الجنوب) لا يتحدث فيها فقط عن ازدهار المدينتين العمارة والبصرة واندثارهما (الذي هو رمز أيضاً لاندثار العراق) بل تحدث فيها عن كل العوائل التي ارتبط تاريخها بالمدينتين. إحدى العوائل تلك طبعاً، هي عائلة حنا الشيخ؟ نعم أي حزن سيشعر به الروائي هذا وهو يتلفت حواليه، ولا يرى غير تجاهل القصص التي تتحدث عن البلاد هذه وناسها ولا تتحدث عن بلاد أسمها الواق الواق، أي ألم سيعتصره وهو يرى البلاد لا تريد أن تتذكر، أن يراها تصر على النسيان؟ الصحافة العراقية تكتظ بعشرات المقالات الثقافية والنقدية التي تتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة، لكنها تتجنب الحديث عن القصص أو الروايات التي لها علاقة بالحياة. من يقرأ رطانة المقالات تلك، سيقول لنفسه، الرطانون هؤلاء في واد والواقع في واد آخر، النسيان هو مرض عراقي مزمن، فليس من الغريب، أن يعرف البعض الآن أن هناك عائلة عراقية متخصصة بالعمل في الموانئ اسمها عائلة حنا الشيخ، للأسف ليست تلك هي القصة الأولى وبالتأكيد لن تكون القصة الأخيرة في بلاد وادي النسائين.

السابق
عن حروب المقابر وعن الأسرى والمعتقلين أيضاً
التالي
بشار الأسد، هاوي إشعال الحرائق، يتحول إطفائياً