بعض من أشياء فندق الكارلتون قد توسع نظرتنا إلى بيروت

كانوا قد بنوا أوتيل كارلتون من مواد قاسية عاندت آلات الهدم الضخمة التي راحت تضرب جدرانه. إنّهم لا يحقّقون شيئا كثيرا، كنّا نقول كلّما عبرنا بقربه يوما بعد يوم. بدت جدرانه في قساوة الصخر الذي تقوم عليه أساساته، ذلك الصخر الذي رأينا فجوته العميقة بعد أن أنهوا تدمير الفندق ورفعوا أنقاضه. وقد اقتضى منهم ذلك وقتا طويلا لا بدّ، مستعينين لذلك بشاحنات كانت تتقاطر واحدة وراء الأخرى، تلك الشاحنات التي نقلوا بها محتويات الفندق من أسرّة وطاولات وكنبايات وأدوات المطابخ والمطاعم وأشياء أخرى كثيرة. كما كانوا قد ملأوا شاحنات ستّ بتلك الأوراق والسجلات والصور التي تحكي تاريخ الفندق منذ تأسيسه. وكانت هذه محمولة لترمى، شأن الأنقاض والحطام، في واحد ممّا يسمونه المكبّات، تلك التي ينبغي أن تكون كثيرة لشدّة ما تُخرج المدينة، كلّ يوم، من حجارة الهدم. وقد صدف أنّ لقمان سليم كان مارّا من هناك، بحسب ما روت مونيكا في هنغار أمم. وإذ رأى أنّ ما يظهر من حمولة الشاحنة لا يليق بها، عمل لقمان على إقناع السائقين بأن تنقل الشاحنة، ومعها الشاحنات الخمس الأخرى، إلى مكان آخر حيث سيجري العمل على ما تحمله لإحياء تاريخ ذلك الفندق، وذلك من ضمن مشروع ضخم يشترك فيه باحثون كثيرون يسعى إلى تكوين ذاكرة للمدينة التي يبدو نشاطها الأوّل هدم أبنية لتقوم في مكانها أبنية أخرى.
من الصور التي عرضتها أمم، وكذلك مركز بيروت للفن الذي يشترك مع زيكو هاوس أيضا في ذلك المشروع، صورة تنقل جوف إحدى القاعات فارغا، وفي الأسفل، هناك حيث توضع كلمات التعريف، كُتب أنّ غرف الفندق كانت مطلّة كلّها على البحر. لم يسبق للكثيرين ممّن كانوا يعبرون بقرب الفندق كلّ يوم، مرات عدّة وليس مرّة واحدة فقط، أن رأوا كيف يبدو البحر من شرفات الغرف، لكن كان يمكن تخيّل ذلك بأن يضع العابر نفسه على واحدة من الشرفات التي تنفصل إحداها عن الأخرى، لتكون متجاورة، أفقيّا وعموديا بما يصنع هندسة الفندق وتميّزه. والكارلتون، على أيّ حال، كان واحدة من ثمار ذلك الترف العمراني الذي عرفته تلك المنطقة من بيروت في مطلع الستينات، وهو يشمل الأبنية التي تتلو الفندق والمطلّة، هي أيضا، على بحر شوران.
ولا أعرف إن كانت الأبنية هذه ستلقى مصير الكارلتون، فربّما لن يشفع لهذه الأبنية ما يظهر عليها من جدّة باقية على رغم انقضاء نصف قرن على بنائها، ذاك أنّ الفندق لم يكن أقلّ منها تجدّدا وهو، رغم ذلك، أُزيل ليتغيّر مشهد تلك الإنعطافة من الكورنيش البحري بما لم يعد يذكّر بوجوده أصلا. ثمّ هناك ذلك الميل الكاسح إلى الإرتفاع. على مسافة من الكارلتون والأبنية التي تشابهه، هناك، قريبا مما يمكن أن نسمّيها ساحة الروشة، قرّرت الأبنية الجديدة مدى الإرتفاع الذي ينبغي أن تكون عليه أبنية الشارع كلّها. وفي العادة تنصاع الأبنية المجاورة إلى تلك الدعوة حيث بات ساكنو الأبنية المنخفضة يقيمون على أرض هي أغلى ثمنا مما ينبغي لسكنهم.
لا أحسب أن ثمّة مدينة تتغيّر مثلما تتغيّر بيروت. في المدن كلّها يمكن للزائر أن يتجوّل بين الأماكن التي زُوّد بمعلومات عنها قبل سفره فيجدها باقية كما هي في وصفها. في الجزائر، قال يوسف مفصّلا لنا ما شاهده هناك، تثبت الأمكنة على أوصافها فتظلّ القصبة هي القصبة وكذلك تظلّ تلك الأبنية المطلّة على البحر، الملوّنة بالأبيض والأزرق، باقية من أيّام بناتها أو مهندسيها الفرنسيين، باقية لم يهدم منها بناء واحد. في مدن أخرى بقي أهل السوق القديم في السوق القديم. وفي مدن ثالثة توارث الأبناء بيوت أهلهم ، بل أجدادهم.
ليس ثمة مدينة تتغيّر مثلما تتغيّر بيروت. ليس فقط لأنّ ارتفاع أثمان قطع الأرض لا تجاري سرعتها سرعة أولئك المقيمين عليها، بل أيضا لأن الناس يبدون شديدي الميل إلى التغيّر فلا يثبت واحد منهم على الحال الذي هو فيه. ليس أنّنا لم نعد نرى البيوت التي كانت منتشرة متوزّعة في مناطق مثل المصيطبة والأشرفيّة، بل إنّنا لم نعد نرى البشر الذين كانوا مقيمين فيها. أن يقوم سكنٌ محلّ سكن، في مكانه ذاته، فذلك يبدو أشبه بالغزو الذي ينكفئ المهزومون فيه إلى جوار لا يتعرّفونه. "بيروت حلوة، السكن فيها حلو.." قالت رجاء التي كانت تسأل عن ثمن المتر من الشقق في منطقة ما بعد خلدة. ذاك أنّه سبق لها أن كانت مقيمة في بيروت، ولسنوات كثيرة أعقبت مولدها.
لا شيء يثبت في موضعه، لا الأبنية ولا البشر ساكنوها. ذلك الميل الجامح إلى التغيّر لا يكترث بأن يُبقي من الأشياء المُزالة أثرا. الجيل المقبل لن يعرف أنّ فندقا عريضا مطلاً على البحر كان هنا، وأنّ حياة كانت جارية في غرفه وأروقته. أبو هادي التسعيني لن يترك شيئا ممّا تحتويه ذاكرته عن بيروت بعد رحيله. ونحن الذين سبق لنا أن عشنا في زمن تلا زمنه لن نورّث ما سبق أن عشناه وعشنا فيه إلى من سيأتون بعدنا. ذاكرة البيروتيين تجاه مدينتهم هي أقصر الذاكرات. هي لا تذهب بهم إلى أكثر من الزمن الذي عرفوه وعاشوه. والأكثر خطرا من ذلك هو أنّهم غير مدركين، أو غير مكترثين، لفكرة أن الزمن الذي يعيشونه، زمنهم هم، لن يستمرّ باقيا في ذاكرة من سيأتون من بعدهم. لقد عرّفتنا منى حلاًق في سنوات سبقت، على نتفة من حياة بيروت السابقة في المعرض الصغير الذي أقامته عن حياة طبيب الأسنان الذي تخرّب المبنى، من جرّاء القصف والرصاص، الذي كانت فيه عيادته. كانت منى قد وسّعت زمننا بان أضافت عليه حياة، وإن قليلة، من الزمن الذي كان قبلها. أن نتذكّر مبادرة منى تلك شيء حسن وذلك لكي لا ينقضي تذكّر الأمكنة الزائلة مثلما تنقضي الأمكنة الزائلة نفسها.
إنّه مشروع لضمّ تاريخ بيروت إلي حاضرها، ذلك الذي تسعى فيه المراكز الثقافيّة الثلاثة. بين ما ننتظر من نتائجه أن يجعلنا أبطأ وأن يهدّئ من لهاثنا جرّاء ركضنا محاولين مجاراة تلك السرعة المتقلّبة.

السابق
الثكنات هي المكان الطبيعي للعسكر لا ساحات السياسة
التالي
لبنان بين زمنين، بين ثورتين