تركيا وإسرائيل وجهاً لوجه

انقلب العالم السياسي راسا على عقب في الشرق الاوسط منذ اندلاع «الانتفاضة» العربية، وباتت المنطقة في غليان تاريخي «راديكالي» لم تشهد له مثيلاً منذ نهاية الاحتلال الامبريالي وتأسيس دولة اسرائيل العام 1948.
اما التطور الاهم الذي يتضح مع الوقت فهو ان البلدان العربية قد تصبح اكثر ديموقراطية في المستقبل، لكنها ستكون في الوقت ذاته اكثر ضعفاً لجهة قوة الدولة وقدرتها على صون استقلالها. هذا ما هو واضح تماما في العراق، وما هو في طريقه الى التحقق في ليبيا وما قد يحدث في سوريا.
هذا الضعف – المرجح ان يمتد لسنوات – يضمن الصعود النافذ للقوى الاقليمية. هذا ما كان واضحا خلال زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الى القاهرة حيث استقبل بحفاوة وزيارة كل من رئيس الحكومة البريطاني ديفيد كاميرون والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الى بنغازي اللذين استقبلا كالابطال على وقع تصفيق لم يكن ليحظى به اي زعيم عربي آخر.

في العديد من الدول العربية، عادت الانقسامات السياسية والطائفية والاثنية الى الظهور مجددا، بعدما كانت مقموعة في السابق. لطالما منعت هذه الاختلافات تشكل معارضة موحدة. فعمق نجاح الانتفاضات العربية في تونس وليبيا ومصر وسوريا هو في تشكيل تحالفات ضد النظام، تجمع بين الليبرالي والمحافظ، العلماني والمتدين، الغني والفقير، المثقف وغير المثقف. الا انها تحالفات هشة. فبدون هدف الاطاحة بالديكتاتور، يبقى القليل ليجمع ما بينهم.

للانقسامات الطائفية والاثنية في كثير من الدول العربية، تاريخ طويل، لكنها تعمقت اكثر خلال العقد المنصرم. في العراق، يعيش السنة والشيعة والاكراد حالة خوف الواحد من الاخر، كما يتهم الواحد الاخر اكثر مما يفعل الرعاة الاقليميون والدوليون (ايرانيون او اتراك او سعوديون او اميركيون). في سوريا، تزداد الكراهية بين السنة والعلويين يوما بعد يوم وبطريقة سامّة، فيما لا يزال الرئيس بشار الأسد يعتمد على العلويين، الطائفة الشيعية التي تمثل العمود الفقري لنظام حكمه.
في اية حال، واضح ان صدى الانتفاضات العربية يرفض استمرار الانظمة الآلية القوية التي اظهرت لاكثر من نصف قرن الدكتاتورية على انها ثمن السلم الاهلي والاستقلال الوطني.

هذا ما بدا صفقة معقولة تم دفعها في مصر ابان أزمة السويس في العام 1956، وفي سوريا بعد هزيمة حرب 1967، أو حتى في العراق خلال السبعينات… لم يف الديكتاتوريون يوما بوعودهم. فإبان العام 1975 كانوا قد حصنوا انفسهم ضد الانقلابات عبر بناء أجهزة الاستخبارات المتعددة الوحدات التي قمعت بوحشية كل انواع المعارضة. كما أخضغت كل مصادر السلطة المستقلة كوسائل الإعلام والأحزاب السياسية والنقابات العمالية، بالاضافة الى المساجد، للرقابة المباشرة او حتى السحق. فتحولت الأنظمة العسكرية إلى دول امنية تديرها العائلات الحاكمة شبه الملكية التي احتكرت الثروات.
اختصر مبارك والاسد والقذافي كل السلطات. تجاهلوا مؤيديهم السابقين او حتى خانوهم. في سوريا ومصر وليبيا، فقدت الانظمة قواعدها الشعبية. في سوريا، كان هناك ما يشبه العقد الاجتماعي حيث تقدم الدولة الوظائف، والحد الأدنى للأجور والأسعار الخاضعة للرقابة. ولكن الرأسمالية غير المقيدة والسوق الحرة اسقطتا هذا الدعم.
 
فالانتفاضات حظيت بدعم الطبقة العاملة التي ساندت النظام ذات مرة.. عمال مصانع القطن في مصر كانوا ايضا من بين أول الداعمين للاحتجاجات، وكذلك المناطق الفقيرة والقديمة في العاصمة الليبية طرابلس. اما في إيران، فعلى النقيض من ذلك، بذلت الحكومة جهودا كبيرة لضمان أن تبقى حركة احتجاج حزب «الخضر» محصورة بالطبقة الوسطى الى حد كبير، اي بعيدا عن جماهير جنوب طهران.

.. اذاً، دكتاتوريو القومية العربية، ومعظمهم من استولى على السلطة في السنوات التي تلت فوز إسرائيل العسكري في العام 1967، سقطوا، بل فقدوا مصداقيتهم، حتى ذهب معهم متغير القومية الخاص بهم. فالانقلابات العسكرية والاحتجاجات الشعبية التي ظللت خمسينات وستينات القرن الماضي، اقيمت كلها تحت الشعارات القومية، فيما انتجت الصحوة العربية قليلا جدا منها. في ميدان التحرير، لم يكن هناك تقريبا لافتات تهاجم إسرائيل (على الرغم مما عرضه التلفزيون الاسرائيلي عن انتشار القليل منها). اذاً، ان قلب الثورات هذا العام هي الحرية من الطغاة المحليين، وليس من النفوذ الأجنبي… لجأ القذافي عبثا الى منطق القومية، مدعيا ان الثوار كانوا بيادق للقوى الأجنبية الراغبة في سرقة ثروة ليبيا النفطية. فبدا هذا النفاق والدعاية لخدمة مصالحه في وقت امعن القذافي وأبناؤه في سرقة الكثير من هذه الثروة بالذات.

لا شك ان القوى الاجنبية ستزيد نفوذها في عالم عربي ضعيف. هذا ما حدث فعلاً في العراق. ومن المرجح أن يحدث امر مماثل في سوريا، حيث الطائفية والقبلية الى تزايد. يجوز لنظام الأسد محاولة البقاء على قيد الحياة، لكن المعارضة تأمل ايقاف ذلك عبر التهديد بتدخل دولي على غرار الحالة الليبية. اما حقيقة ما يعاني منه الاسد الذي قد يعيد ضبط الاستقرار عبر الممارسات الامنية، فهو تنامي الاعتقاد لدى حلفائه السابقين بانه سوف يخسر.
الفائز الواضح هو تركيا. ينظر اليها اليوم باعتبارها القوة القادمة في الشرق الأوسط، الديموقراطية القوية والحكومة الإسلامية المعتدلة التي تحكم 80 مليون مواطن وسط ازدهار متزايد. اما تصاعد عدائها لاسرائيل ودعمها للفلسطينيين فيبدو جذاباً للغاية في وقت تحجز الولايات المتحدة نفسها، أكثر من أي وقت مضى، بخطوات مسدودة مع اسرائيل.
لم يوفر رئيس الحكومة التركية اي جهد قبل أسابيع لتوسيع نطاق جاذبية بلاده في الشرق الأوسط. وليدهش العديد من المحللين في تركيا، ويخفف من توتر «الإخوان المسلمين» في مصر، ايد اردوغان العلمانية بشراسة: «في نظام علماني، للناس الحرية المطلقة لأن يكونوا متدينين او غير متدينين.. أوصي بدستور علماني لمصر. لا تخافوا العلمانية، فهي ليست عدوا للدين».

في المقلب الاخر، يشعر الزعماء الإسرائيليون بالحيرة حول مدى جدية التعاطي مع تركيا على انها قائد في العالم العربي. فهي المرة الأولى منذ تأسيس إسرائيل، التي تقف فيها الدول الثلاث الأقوى في المنطقة – تركيا ومصر وإيران – معارضة لها. فبعد تخصصها لفترة طويلة في المبالغة بالتهديد الذي تشكله كل من حماس وحزب الله
ومنظمة التحرير الفلسطينية، يجد قادة اسرائيل صعوبة في الاستجابة لحالة من الخطورة الحقيقية مع تحول اقوى دولتين اقليميتين من موقع «الصديقين الحليفين» لاسرائيل الى الموقع المختلف تماما.
سياسة تركيا لانشاء الصداقات اينما كان، من دون صناعة الاعداء، امر صعب الاستمرار به طويلا. فاذا الحق اردوغان اقواله القاسية ضد اسرائيل بأفعال اقسى تجاهها، فلا بد ان اسرائيل والولايات المتحدة سيردّان ايضا… على السيد اردوغان ان يواصل التمتع بشهر العسل السياسي الذي صنعه لنفسه، على اتساع وقته. ولكنه سيكتشف قريباً ان في الشرق الاوسط بناء الصداقات مع الجميع، امر مستحيل. 

السابق
رحل جوبز ولم نعرف من قضم التفاحة!
التالي
الحريري نفى استعداده لقاء الأسد