ستيف جوبز المقبل، هل يكون صينياً؟

في اليوم الذي فقدَ العالم ستيف جوبز، كان وزير تنمية الموارد البشرية في الهند كابيل سيبال، يعرض – منتصراً – الاختراع المحلي الأحدث في نيودلهي "آكاش" (راجع الاطار)، وهو عبارة عن كمبيوتر لوحي إلكتروني ثمنه 30 أورو (نحو 42 دولاراً). بعد "تاتا نانو"، السيارة التي تباع بسعر 2500 دولار، أطلق الهنود "آي باد" الفقراء. إنها تحيّة جميلة لعبقرية مبدع "آبل"، حتى ولو كان ستيف جوبز، الذي كان يبحث عن الإتقان الشديد إلى درجة الكمال، ليجد بالتأكيد شوائب كثيرة في تصميم الابتكار الهندي وبرمجياته.

ويُتوقَّع ان يُوزَّع الكمبيوتر اللوحي "آكاش"، الذي هو من ابتكار المعهد الهندي للتكنولوجيا في راجستان وتنفيذ شركة "داتا ويند" البريطانية، على 500 طالب في مرحلة أولى. وإذا نجحت التجربة، يُعرَض في الأسواق لربط عشرات ملايين القرويين والأولاد والبالغين بموارد العالم الحديث. إذاً تعمل التكنولوجيا الهندية على طريقتها لتحقيق حلم الأميركي نيكولاس نيغروبونتي الذي أسّس "المختبر الإعلامي" في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكان هدفه توفير كمبيوتر محمول لكل ولد.
هل سيضاهي "آكاش"، على مستوى البلدان الناشئة، النجاح المنقطع النظير الذي حقّقه "آي باد"؟ يشكّ الخبراء الغربيون في ذلك، وقد تصيب شكوكهم أو تخطئ. لكن النقطة الأساس هي ان المغامرة مستمرّة. فالثورة الرقمية التي انطلقت من الولايات المتحدة انتشرت في العالم بأسره، واليوم، تريد القوى الناشئة بدورها ان تكون مراكز للابتكار. علّق فريد أندرسون، المدير المالي السابق في شركة "آبل"، بحزن على وفاة ستيف جوبز قائلاً: "لن يكون هناك ستيف جوبز آخر". ربما يجب طرح السؤال بطريقة مختلفة: هل سيكون ستيف جوبز المقبل أميركياً؟

تشير عوامل عدّة إلى أنه في البلد الذي يحتضن "سيليكون فالي" و"شارع 128"، أي المنطقة التي تضم كبرى شركات التكنولوجيا على مقربة من بوسطن، ليس السؤال عبثياً. فقبل كل شيء، يشجّع المناخ السائد على طرح مثل هذا السؤال، في ضوء الخفوض في الموازنة والتهديد بالركود، ناهيك عن الانحدار الذي يُخيّم على الأجواء العامة. المفكّرون خائفون، فبعضهم يتوقّع أفول الابتكار، فيما يتوقّع البعض الآخر "نهاية المستقبل".

هذا فضلاً عن غياب المثالية، وربما أيضاً اختفاء اللامبالاة، فأي شاب أميركي يجرؤ اليوم على التخلي بعد ستّة أشهر، كما فعل ستيف جوبز، عن مكان اكتسبه بشق النفس في جامعة جيّدة، ويجري اختبارات وتجارب في مرأب والدَيه؟ أخيراً وفي شكل خاص، هناك تجربة البلدان التي تبدي رغبتها في ان تنتج بدورها أدمغة ذات نوعية عالمية. فالصين على وجه الخصوص لم تعد ترضى بأن تكون مشغل العالم، بل تريد ان تكون أيضاً مختبره. وفيما تتسبّب أزمة الديون بخفض موازنات الدول الغربية، يستعيد الصينيون علماءهم الذين تدرّجوا في خيرة المراكز العلمية الأميركية، ويستثمرون مبالغ طائلة في البحوث. باختصار، أمبراطورية الوسط التي أعطت البشرية البوصلة والبارود والطباعة، تُهدّد التفوق الفكري والتكنولوجي للغرب.
هذه هي "الرواية" التي تدغدغ العقول البسيطة التي تحلو لها رؤية العالم بالأسود والأبيض. لكن الواقع مختلف قليلاً. إليكم مثالاً صغيراً: مُنِحت ثلاث جوائز نوبل علمية (الفيزياء والكيمياء والطب) لسبعة أشخاص، جميعهم غربيون. تحلم الصين بالفوز بهذه الجوائز، لكنها لم تحصل حتى الآن على أي منها، ما عدا تلك التي مُنِحت لصينيين مهاجرين إلى الغرب. 
تُظهر النسخة الأحدث من الجدول الذي تنشره منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بصورة منتظمة عن الصناعة والعلوم والتكنولوجيا ان الولايات المتحدة لا تزال تتقدّم بأشواط في مجالَي الابتكار والعلوم لناحية الاستثمار والحجم والنطاق. عام 2009، خصّصت نحو 400 مليار دولار للبحوث، أي 2,7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، بفارق كبير عن الصين التي احتلّت المرتبة الثانية (إذا استثنينا الاتحاد الأوروبي)، إنما مع 154 مليار دولار أي 1,7 في المئة من إجمالي الناتج. وإذا اكتفينا بالنظر إلى تصنيف الجامعات، والأعمال المنشورة في المجلات الأكاديمية، وعدد براءات الاختراع، تحتفظ البلدان الغربية أيضاً بتقدِّم واضح. لكن يجب ألا يُعمي هذا بصيرتها: فقد توقّعت دراسة لوكالة "رويترز" ان تتجاوز الصين الولايات المتحدة واليابان في عدد براءات الاختراع سنة 2011. وفي بعض القطاعات، مثل العلوم الجينية وبحوث الصيدلة، الصينيون متطوِّرون جداً، ولن يتوقّفوا عند أفق معيّن: فهم يغامرون في الفضاء، وأنشأوا قاعدة استكشافية في القطب الجنوبي.

بيد ان الصين لم تنجح في نسخ المقوّمات التي تصنع النجاح المذهل لـ "سيليكون فالي" – أي التقاء العبقرية ورأس المال والصناعة في المكان نفسه – ولا الثروة التي يولّدها في الولايات المتحدة نسيج مراكز الابتكار الأصغر حجماً، والمنوَّعة جغرافياً، من الساحل الغربي إلى الساحل الشرقي. والابتكار هو أيضاً وفي شكل خاص ثقافة وفلسفة. لا يكتسب حجمه كاملاً إلا في مناخ من المنافسة الحرّة والتداول الحر للأفكار والمواجهة الحرّة بين آراء متعارضة. ولا وجود لمثل هذا المناخ في الصين حالياً، ولأجل ذلك بالتأكيد، لن يكون ستيف جوبز المقبل صينياً. في البلد الذي يُصنِّع أكبر عدد من منتجات "آبل"، قالها البعض صراحةً عند وفاة ستيف جوبز: "متى سيكون للصين ستيف جوبز؟" كما سألت صحيفة "نانفانغ دوشيباو" التقدّمية الصادرة عن مجموعة "كانتون" قبل ان تضيف "بالتأكيد ليس للصين تقليد في الإبداع، لكن هذا التقليد لا ينتقل بالوراثة، بل يُصنَع. إذا تمكّنت الصين من بناء بيئة سياسية وثقافية أكثر حرّية وانفتاحاً، فسوف يكون لها ذات يوم مبدعها الكبير". وأبدى الطالب الجامعي جيانغ زونغفو من إقليم هونان، أسفه على مدوّنته الإلكترونية بأنه للصين ماو تسي تونغ إنما ليس ستيف جوبز. فقد كتب "ما كان نظامنا التربوي ليعطي ستيف جوبز حق قدره. لو ولد ستيف في الصين، لعمل في سلسلة الإنتاج في مجموعة "فوكس كون" أو كان ليصبح فتى شوارع". توجّه ستيف جوبز في خطابه الشهير في ستانفورد عام 2005، إلى الطلاب بالقول "ابقوا متعطّشين، ابقوا مجانين". الصينيون متعطّشون، ينقصهم فقط الجنون. 

السابق
سعودي يمتنع عن قيادة السيارة تضامناً مع النساء
التالي
حارة صور تعود إلى حضن العلم مع مشروع “امل” التربوي