الثورة المصرية بين المشكلة الدينية والسياسية

لا يستطيع أحد أن يخبرنا بالفعل ماذا يريد السلفيون المصريون على الخصوص من وراء هدم الكنائس وملاحقة الأقباط: هل هم يخشون بالفعل أن يطغى الأقباط على المسلمين في مصر، إن «أسرفوا» في بناء الكنائس؟! إن كانوا يظنون ذلك، فهذه قلة عقل بالفعل، لأن الأقباط يعانون من استنزاف فظيع بالهجرة وبالأسلمة لأسباب خاصة وعامة. أما إن كانوا يفعلون ذلك لأنهم لا يريدون «للنصارى أن يبقوا في مصر» كما قال أحدهم، فليس هذا من حقهم لا بالمقاييس الحديثة فقط، بل بالمقاييس الإسلامية القديمة أيضا. فما أخرج الفاتحون المسلمون أحدا من دياره، وتعاملوا مع أهل الذمة (من اليهود والمسيحيين) باعتبارهم أهل البلاد الأصليين المحفوظي الحريات الدينية والمعيشية. والمعروف أن عمر بن الخطاب ما صلى في كنيسة القيامة رغم دعوة مطران القدس له للقيام بذلك حتى لا يستولي عليها المسلمون من بعده. وقد كان هم صلاح الدين عندما استعاد القدس من الصليبيين إعادة اليهود إلى الحي اليهودي بالمدينة، والذي كان غزاة القدس قد دمروه. وعلى الحماية والرعاية درج المماليك والعثمانيون كما تدل على ذلك وثائق دير سانت كاترين.

ويبقى إمكان ثالث، وهو أن المسيحيين يخالفون في بناء الكنائس والأمور الأخرى الأعراف التي اعتادوا عليها مع الدولة المصرية. ومن ذلك ما قيل من أن كنيسة مرناب بالصعيد هي في الأصل «بيت ضيافة» لا كنيسة. وهذا احتمال ممكن، لكن هذه المئات التي تنتقل من مكان إلى مكان مغيرة على الكنائس، هي جزء من 85 مليون مصري، من بينهم عشرة ملايين قبطي، وهناك دولة مصرية ضخمة يمكن الشكوى لها بأن المسيحيين يرتكبون أمرا إدا ببناء هذا المعبد أو ذاك، وليس من حق أحد أن يهدم مبنى عاديا فضلا عن كنيسة بدون أمر قضائي!

ولذا فالذي أراه أن الأمر بعد كل هذه السنوات صار يتجاوز قلة العقل والتعصب إلى المرض العضال الذي ينبغي مكافحته من جانب سائر الناس صونا للأديان والأخلاق وكرامة الإنسان. لقد كانت السلطة السابقة في مصر مستفيدة من ضيق أفق المتشددين، وربما كانت مخامرة لهم، لأنها كانت تتدخل بعد كل واقعة وتتظاهر بالرعاية والحماية والمدافعة. ولذلك كان البابا شنودة يفضل بقاء حسني مبارك، ليس لثقته به وحسب؛ بل ولأنه مرجع أوحد يمكن العودة إليه في النوائب، ولا مراجع أو اطمئنان في زمن الثورات! لكن شبان الأقباط وكهولهم ما وافقوا البابا وكبار الكهنة على ذلك. وقالوا إن الحالة لا تطاق ولا يصبر عليها، فهي ذمية بالغة القسوة، ولا تمنع ظلما ولا تحق حقا. بل الأفضل المشاركة في الثورة من أجل المواطنة الحقة، والمساواة الكاملة، والحريات الدينية والسياسية. وكانوا هم الذين كسروا هيبة أجهزة الأمن المصري بعد الإغارة على الكنيسة بالإسكندرية قبل الثورة بقليل. وهكذا خرجوا في كل مكان منذ 25 يناير مع الشبان الآخرين، وضمن سائر الحركات والأحزاب المدنية. بيد أن الإغارات على كنائسهم ومجتمعاتهم استمرت بعد الثورة، وفي الجيزة وامبابة وقرى الصعيد والمحلة الكبرى. وقد تجمعوا وتظاهروا أمام وسائل الإعلام بماسبيرو واعتصموا احتجاجا على ما يحصل، وقيل لهم بعد جهد إن قانونا سيصدر ينظم مسائل بناء دور العبادة وصون الحريات الدينية، وهذا كله قبل ثلاثة أشهر ونيف! وما حصل شيء من ذلك، لتأتي حادثة قرية مرناب فتكون القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل العربي!

إن الخطر أن هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها شبان من الأقباط مستعدين لاستخدام العنف ضد رجال الأمن، وضد الممتلكات الخاصة والعامة. وهذا يشير إلى المدى الذي بلغه الاحتقان، كما يشير إلى تقليد قديم لديهم في الاندفاع إلى «الشهادة» إشهادا لله وللعالم على الظلم الصارخ الواقع بهم!
 
لا يقبل بشر بالمشرق التعرض للمعابد ولحريات وحقوق العبادة. وهذا ليس خاصا بالمسيحيين واليهود والبوذيين.. الخ؛ بل هو أيضا شأن المسلمين منذ بداية الإسلام. فقد كانوا قلة ضعافا وما أمروا بعد بالجهاد لأنهم لا يقدرون عليه عندما نزل قوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين». هكذا حدد القرآن جريمتين لا يمكن الصبر عليهما مهما بلغ ضعف المعتدى عليه: التعرض لدينه، وطرده من وطنه. وهذا كله لا يبرر اللجوء إلى الوضع الذي فيه وعليه مصر الآن. إنما يشير إلى أن انضمام شبان الأقباط إلى الثورة المصرية ما كان خيارا، بل هو رهان أيضا. وأن يتسلل إلى وعيهم أن البقاء مع نظام مبارك كان أفضل هو أمر خطير. لقد أرادوا بهذا الخيار الذي لا مرد له الخروج من مشكلة تاريخية، والدخول في لحظة ملائمة هي لحظة ثوران الشعب المصري كله – باتجاه المواطنة الكاملة. والمواطنة الكاملة تعني حقوقا وواجبات متساوية، وتعني المشاركة السياسية والإدارية، وتعني الحقوق الأساسية الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وحرية التعبير. واللحظة ملائمة، لأن سائر فئات الشعب المصري تطالب بذلك. وليست هناك غير قلة لا تكاد تذكر لا تؤمن بهذه الحقوق لنفسها أو غيرها. لكن القلة هذه تستطيع إفساد قضية الأكثرية إن جرى الخضوع لها أو الاستخفاف بتصرفاتها.

بيد أن غضب الأقباط، وإن يكن في ظاهره متصلا بحريات العبادة؛ فإنه سياسي أيضا. فقد صدر قانون الانتخابات، من ضمنه المادة الخامسة التي تتيح للمستقلين الترشح على ثلث مقاعد البرلمان، ويبقى الثلثان للقوائم الحزبية. وقد احتجت الأحزاب على ذلك، فصير إلى الإلغاء: فهل كان الشبان الأقباط قد وضعوا الآمال في الدوائر الصغرى والفردية، للحصول على تمثيل بدون منة لا من النظام – كما في عهود الثورة المصرية منذ عام 1952 -، ولا من الأحزاب الكبيرة التي يضطرون لكي ينجحوا للترشح على قوائمها؟! قد يكون ذلك صحيحا بعد ظهور مخاوف من القوى الإسلامية المنظمة، والتي تستطيع اكتساح الانتخابات إلى حد كبير.

والواقع الآن أن الأقباط أو بعض فئاتهم الشابة، تركت انطباعا لدى الداخل والخارج، أنها لن تتنازل أبدا عن حقوق المواطنة وحرياتها، وأنها – بحكم الثورة والتغيير – تريد ولمرة واحدة تصحيح سائر الأمور التي كانت مثار شكوى لدى جمهورها المسيحي منذ السبعينات من القرن الماضي. وقد كانت ردة فعل الخارج الأوروبي والأميركي على التحرك الاستشهادي للأقباط إيجابية ومستثارة. إنما تحتاج الحكومة المصرية، ويحتاج المجلس العسكري إلى شجاعة وإحداث انطباع. إذ الواضح أن الجمهور المصري ما كان راضيا عن اندفاع شبان الأقباط، وما كان سهلا حتى على شبان الثورة المدنيين الدفاع عنهم.

وقد اتضح من بيان الإخوان المسلمين المطالب للأقباط بالصبر في هذه المرحلة الانتقالية، أن هؤلاء لا يريدون الاستجابة للمطالب القبطية ودائما بذريعة الانتخابات. فيستطيع المجلس العسكري الآن إصدار قانون المعابد، كما يستطيع إقالة محافظ أسوان، ووزير الإعلام، لأن استجاباتهما للتحدي ما كانت ملائمة. فهذه واقعة تزيد في إحراجها على واقعة إحراق السفارة الإسرائيلية، لأن الواقعة القبطية داخلية بحتة، ولا يمكن التذرع فيها بالعوامل الخارجية والمؤامرات مثلما حصل مع واقعة السفارة. فالديمقراطية القائمة على المواطنة والمشاركة وحقوقهما، هي أبرز ما تريد الثورة المصرية والثورات العربية الأخرى إنجازه، ولا يمكن تأجيلها إلى الغد بأي ذريعة. 

السابق
جنبلاط: المسدس لـم يعد في رأسي
التالي
إختبار لنضج الديمقراطية التركية