ليلة القبض على علوش

في السنة الأخيرة من دراسته الجامعية، استنجد الطالب مصطفى علوش بمؤسسة رفيق الحريري. يساريته لم تمنعه من طلب المساعدة من الرأسمالية المتوحشة. بقيت «فلوس» الجامعة ديناً على متخرج الطب. وعندما قرّر ان يسدّد الدين، بعد عودته من الولايات المتحدة، دفع ثمناً اكبر بانتقاله من حضن ماركس وإنجلز ولينين الى «تيار المال والسلطة»… لم يتخلّف ابن التبانة يوماً عن اداء «واجب الطاعة» منذ انخراطه في صفوف «تيار المستقبل» عام 1998 حتى عام 2005، حين انغمس مع زملائه في المعسكر الازرق في رحلة البحث عن «الحقيقة» بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. مذاك تمترس الجرّاح على جبهة المدافعين بصدورهم عن «التيار» وأهله. لكن غلطة علوش بألف…

قبل ان يجرّ لسان منسّق «تيار المستقبل» في الشمال المناضل الى «الخطيئة الكبرى»، كان الرجل قد ادى قسطه للعلى في هجاء النظام السوري و«حزب الله» وأتباعه وأتباع «الولي الفقيه» في لبنان. هي ثوابت وقناعات قبل ان تكون إملاءات وفروض واجب: «حزب الله» يتصرف كفاجر ومجرم لا كمتهم، وإذا كان هو من اغتيال الرئيس الحريري، فـ«الوليّ الفقيه هو من افتى بذلك». وبرأيه موقف الرئيس الاميركي باراك اوباما الداعي لتنحي الرئيس السوري بشار الأسد جاء متأخراً. وكل حاكم يقوم باستخدام هذا القدر من العنف تجاه شعبه يفقد شرعيته مباشرة، مكرراً اكثر من مرة أن الأسد سيستمر بالحل الأمني وقمع الناس وقتلهم الى حين حصول المحتوم وهو سقوط النظام السوري، ومتوقعاً ان تطبق السياسة الانتحارية التي انتهجها النظام الليبي في سوريا… كل ذلك، لم يشفع في منع التلويح بـ«الحُرم التنظيمي» بوجه الطبيب.

في المبدأ، منسّق «تيار المستقبل» في الشمال «مع الحرية في اي مكان بالعالم». اعلنها بالفم الملآن. اذا كان دعم الشعوب لنيل حريتها يسمى مؤامرة فهو، وجميع من في مركب المؤيدين للثورات العربية، جزء من هذه «المؤامرة». هكذا لم يكن صعباً على الطبيب وزملائه الذهاب بعيداً في التصفيق للميادين وساحات التغيير المشتعلة من تونس الى مصر واليمن وليبيا وسوريا. في البحرين صمت «المستقبليون» وتكلم علوش. لكن ليس من باب دعم الثورة، مع أنه من أنصار الحرية في كل مكان في العالم، إنما طمعاً بتعرية موقف «حزب الله» من الاحتجاجات في «ميدان اللؤلؤة»، معتبراً ان موقف الضاحية مما يجري في البحرين «نفاق» قياساً بموقفه من الاحتجاجات التي حصلت في إيران في العامين الماضيين وبما يجري اليوم في سوريا.
قد يكون الحظ ربما، او التوقيت القاتل، او زلّة «القناعات» (وليس اللسان، او الحنين الى زمن حماس اليسار… هو الذي ادى الى رجم علوش بحجارة الخيانة والتمرّد وأبقى نهاد المشنوق في دائرة الأمان. الثاني، قبل الاول تجرأ بانتقاد المملكة، من باب التحفيز. نائب بيروت وجّه لوماً للرياض لتلكؤها عن اعلان موقف واضح من مشهد العنف الدامي في سوريا. قال كلمته ومشى. وفي البال ان «الحُرم السعودي» بحقه قد يصدر في اي لحظة. للوهلة، ظنّ كثيرون ان المشنوق كسر المحرمات. بسرعة قياسية أحاله رفقاء الدرب الى اللائحة السوداء. والمتشائمون منهم تحدثوا عن سيناريو انتحاري: انتقاد المملكة قفز في المجهول… هو السقوط في الهاوية.

ربما لم يتسن للملك عبد الله ان يسمع «بتحفظات» النائب اللبناني صاحب العلاقة الوطيدة بالعديد من المسؤولين في الرياض. لكن في الوقت الذي كانت فيه مخيلة اهل المستقبل ترسم النهاية السوداء للمغامرة غير المحسوبة النتائج للمشنوق، خرجت المملكة عن صمتها ووجّه العاهل السعودي كلمة تاريخية الى الشعب السوري مؤكداً فيها ان ما يحدث في سوريا لا تقبله المملكة وأكبر من ان تبرّره الأسباب، معلناً استدعاء سفير الرياض في دمشق، ومطالباً «بإيقاف آلة القتل وإراقة الدماء وتحكيم العقل». 
بعد هذا الكلام لن يكون كما قبله. اصغر ناشط في «تيار المستقبل» في آخر قرية عكارية وصولاً الى الرئيس سعد الحريري نفسه، كان يتمنى ان تنطق المملكة بحكم الإدانة لنظام بشار الأسد. لكن احداً من هؤلاء لم يكن يتجرأ ليطالبها علناً بذلك. تأخرت السعودية عن الواجب. طالبها المشنوق بموقف للتاريخ. استجابت بالصدفة، لحسابات خاصة بها، وبتوقيت اختارته بنفسها، وليس أخذاً بنصيحة لبنانية أو غير لبنانية…

الآية جاءت معكوسة تماماً مع النائب السابق مصطفى علوش. في موقف غير مسبوق، يعلن الملك السعودي عن السماح للمرأة المشاركة في مجلس الشورى عضواً والمجالس البلدية ترشيحاً واقتراعاً، اعتباراً من الدورات المقبلة، وفق الضوابط الشرعية. في قناعات اليساري المستقبلي هي خطوة غير كافية في عصر البراكين العربية الثائرة. في السعودية المرأة لا تقود سيارة، وما تزال بحاجة الى ولي أمر ذكر لإتمام كل معاملاتها الرسمية… في السعودية ايضاً الحريات والديموقراطية في خبر كان. من دون اي رقابة ذاتية رأى أن ما يقوم به النظام في السعودية تجاه المرأة «إجرام ولا يمكن ان يستمر»، ولم يتراجع عن قناعاته بوجود قصور كبير في مجال الحريات في المملكة.

من دون أدنى شك جميع زملاء علوش، من المتحمسين لأن يزهّر «الربيع العربي» في عاصمة الأمويين، يوافقونه الرأي، لكن أحداً منهم لا يهوى الذهاب برجليه إلى إلى الهاوية. ليست السيناريوهات الانتحارية من هواياتهم في زمن الثورات المعدية. جميعهم، ومن دون استثناء، يربطون اللسان حين يسألون عن «ربيع الرياض». أحمد الحريري يؤكد على «خيارنا في السير في اتجاه التغيير الديموقراطي في المنطقة العربية»، ويشدّد على «ان الأنظمة الديكتاتورية المســتبدة لا تولّد الا العنف ولا تصنع اعتدالا». جميل ودقيـق هذا الكلام، لكن المملكة خط احمر. يفضّل احمد فتفت تذكير بشار الأسد بما كان بالإمكان تفاديه «لماذا لم يبادر النظام السوري الى تحقيق الإصلاحات قبل اشتعال فتيل الثورة؟».

كان بمقدور علوش توجيه السؤال نفسه الى المملكة على شكل نصيحة حليف «فلتبادر السعودية للقيام برزمة إصلاحات جدية قبل ان تلسعها نيران الثورات». النائب عمار حوري، من جهته، يستصعب الوقوف متفرجاً «على الجرائم التي ترتكب في سوريا». لكن هو نفسه من اختار الجلوس على مقاعد المتفرجين قبل اشهر حين انتقدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الصمت الأوروبي والأميركي عن انتهاكات حقوق الانسان في السعودية خلال التظاهــرات التي شهدتها المنطقة الشـرقية ذات الغالبية الشيعية، واعتقال الرياض لعشرات المعارضين السلميين. هو نفسه، كما غيره من قيـادات «التيار الازرق»، لم يسمعوا بـ«ربيع البحريــن» بل أدانوا حســن نصرالله لأنه تضامن، فماذا لو تورط بالإعلام والمال والسلاح كما يفعل غيره مع سوريا وليس في الخليج؟ 

السابق
سلهب: التخوف من تعميم أحداث مصر على دول المنطقة
التالي
منظمات المجتمع المدني في لبنان: من وكيف ولماذا ومتى؟