عن رحلتي في بلاد الأميركان (1): القوة التي تستغل اللاشي وتحوّله إلى شيء مربح

أميركا

"أميركا سيدة الكون"، عبارة سمعتها مراراً وتكراراً وتباعاً من أشخاص يعلّلون بهذه الجملة إرتباطهات وأسباب عديدة منها ما هو سياسي، ومنها ما هو اقتصادي وآخر عسكري… أميركا سيدة الكون. الآن، حين وصلت إلى الولايات المتحدة الأميركية ضمن برنامج تدريبي للصحافيين، علمت السبب، وأيقنت أن الحقيقة ليست بامتلاك هذه الدولة أقوى ترسانة عسكرية في العالم، ولا في حيازتها أكبر عدد من القوى المسلحة المنتشرة في كامل بقاع الارض، وليس لأنها تسيطر على سياسات العالم وتفرض عليها قرارات حاسمة متصلة بمجلس الأمن والامم المتحدة، وليس صحيحاً القول إنّها كذلك لأنها تمتلك أكبر قوة إقتصادية وتسير على أكبر منابع البترول والغاز الطبيعي في العالم.

تتجمع العوامل السابقة كاملة، وفوقها العنصر الاساسي الذي لا يمكن لزائر "أميركا" (سأسمّيها هكذا لأنّنا نسمّيها هكذا في بيروت، رغم أنّه اسم القارّة لا الدولة الأميركية) إلاّ أن يتوقف عنده، وهو "الإستغلال"، حيث أن هذه الدولة العظيمة إكتسبت عظمتها لأنها تستغل "اللاشي" وتحوله إلى "شيء" يجذب الجميع نحوه.

نبدأ من العاصمة واشنطن، هذه المدينة الضخمة، المقسمة على شكل صليب بين البيت الأبيض والكونغرس والمباني السياحية التي تحوي تماثيل لرؤساء أعطوا الكثير للسياسة والمجتمع الاميركي، كالرئيس طوماس جيفرسون، ابراهام لينكون ..ويتوسطهما الـwashington memorial، وهو أعلى مبنى، في العاصمة ويمنع بناء أي شيء أعلى منه هناك… هذه المنشآت، جميعها، بنيت بأشكال مزخرفة ومزينة بالأعمدة والجدران الملونة، والملفت أكثر أنه لكل واحدة منها قصة خاصة يتلوها المرشدون السياحيون، ويعمدون إلى إقناع السواح بها، لأنه يسهل ذلك عبر استغلال البناء الهندسي المنفذ لتحقيق الهدف – الإقناع. 

فقصة الرئيس جورج واشنطن، الذي يشمخ بتمثاله لينظر مباشرة إلى البيت الأبيض ليراقب أعمال الرئيس الأميركي ويمنعه من الخطأ، قصة يصدقها الزائر ما إن يرى التصميم الهندسي المتبع ووجهه الثاقب نحو القصر الرئاسي، للإشارة إلى تلك القصة.

هذا الاستغلال لا يقارن بالمتاحف التي تنتشر في كل الولايات، منها ما يمكن الدخول إليه بتعرفة بسيطة، ومنها ما يمكن الدخول إليه بلا تعرفة، والمردود يأتي من شراء الهدايا والتذكارات داخله، إضافة إلى التبرعات الشخصية التي تجمع أيضاً… بفعل قصة!!                                                               
 
                                                                                            

عشرات المتاحف المختلفة التي تظهر روعة الاستغلال. إستغلال العقل وتطويعه لتحقيق الربح. فالربحية تأتي من تلك القدرة على إقامة كلّ ما يمكن لجذب العدد الأكبر من السواح. بالطبع لكلّ قارة متاحفها الخاصة بها، ولكل مخلوق ما يُرمز له، فمن الهنود الحمر إلى عالم النباتات، فالطائرات والصواريخ والحيوانات على أنواعها، واللوحات الفنية المعاصرة والتجريدية… جميعها متاحف تجمع آلاف السواح يومياً، لتعوّض غياب الأماكن السياحية الأثرية والتاريخية المتوافرة في بلدان أخرى، مثل القلاع في موطني لبنان، ومثل العديد من الأماكن الأثرية على امتداد العالم العربي، التي لا تستغل بالشكل المناسب.

ننتقل إلى لمدينة لوس انجلس وشواطئها الرملية الممتدة على مسافات كبيرة. لهذه المدينة دور كبير في "مبدأ الإستغلال". فشارع هوليوود، الاشهر في العالم ربما، يأخذ خاصية سياحية وإقتصادية مهمة على مستوى الأفراد والولاية ككل، عبر جذبه ملايين السواح أسبوعياً، وكل ذلك تحقق نتيجة استغلال الممثلين ومشاهير العالم وتحويلهم إلى نجوم تزّين ذاك الرصيف، بالإعتمادعلى الدعاية، لنقل تلك المشاهد وتحويلها إلى واقع وحلم لكل من يراها أو يتابعها.

هناك أيضاً البحيرات الطبيعية، وحتى الاصطناعية، إستغلالها يتّخذ منحاً كبيراً في مختلف الولايات، من خلال الرحلات البحرية التي تقام بشكل دوري، باستخدام أكبر السفن لاحتواء العدد الأكبر ممن يرغب في رؤية المنازل الضخمة المحاذية لها والمنتشرة على ضفافها، وأيضاً للتمتع بالمناظر الطبيعية والبيئة النظيفة. ولا ننسى الحدائق العامة والمحلات التجارية الضخمة، وهي عديدة ومنتشرة في كل ركن وزاوية، وجميعها مستغلة بطريقة فعالة، فالـcentral park النيويوركي يصل شرق المدينة بغربها، ويجمع في داخله مئات القادمين للتنزه وتمضية الوقت للترفيه عن أنفسهم، من مختلف البيئات والأعمار ولكل منهم حريته واستقلاليته في التصرف والجلوس، فلا أحد يتعدى على أحد ولا أحد يزعج الحاضرين، فتجد في داخله مدينة الحيوانات والاراجيح والبرك، والاشجار والازهار من كل لون ونوع، فتحضن هذه الحدائق الناس من الداخل وتستقطب اعدادا كبيرة من البائعين المتجولين في الخارج، وهم يدفعون ضريبة استخدامهم للشارع بمبالغ كبيرة لحكومة الولاية، ولكنهم في المقابل يكسبون الكثير نظراً لاعداد الزائرين الكبيرة يومياً.

هذا إذا أوّل وأكثر ما لفت نظري في عجالة زيارتي التي دامت نحو شهر إلى الولايات المتحدة الأميركية: متاحف، تماثيل، أبراج، بحيرات، ساحات، وشوارع ضخمة ومزركشة، كلها من صنع البشر، صممها العقل البشري ونفذها، فباتت مقصداً لملايين الاشخاص من كافة اقطار البلاد محولة الدولة المضيفة الى "سيدة الكون"، فباتت المسيطر الاول على السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والمالية والنفطية وحتى الاجتماعية لبقية دول العالم، لانها استطاعت ان تستغل كل شيء، وتطوعه بما يتناسب مع حاجاتها، ومتطلبات الآخرين، الأمر الذي أعطاها الافضلية لتكون الاولى في هذا المجال                                                                                                              
                                                                                               

يتبع  

السابق
هل ستتراجع قيمة الدولار في الاسواق العالمية مع نهاية هذا العام ؟؟
التالي
واكيم: مسألتان خطيرتان في مشروع قانون الانتخاب مخالفة الدستور واعتماد معيار انتخاب كل طائفة نوابها