الفتنة تقتحم على الثورة

هل صدق التخوف من أن ما اتفق على تسميته «الربيع العربي»، «أجمل من أن يكون حقيقة»، في ظل المخاطر الهائلة التي تتهدده، سواء من أهل النظام القديم، او من محاولة قوى الخارج احتواءه قبل أن يتكامل عافية ووضوحاً؟
لقد ألحقت الأحداث الدامية التي وقعت ليل الأحد – الاثنين في قلب القاهرة الأذى بصورة «الميدان»، خاصة، وبآمال التغيير الجذري والشامل التي أطلقتها «ثورة مصر» فغمرت صدور العرب في المشرق والمغرب وملأتهم اعتزازاً بقدرة الشباب على استيلاد الغد الأفضل.
وبرغم ان الثورات معرضة دائماً، وبما هي فعل تغيير جذري، للاصطدام بألغام سياسية قد يكون خلفها النظام القديم، او بالمشكلات الاجتماعية الخطيرة التي فشل في علاجها، او انه رفض « التورط» في التصدي لها، الا ان إثارة المشكلة الطائفية تظل الخطر الأعظم الذي يتهدد أية ثورة، لان الثورة بطبيعتها مطهرة من الطائفية والمذهبية والعرقية، وبالتالي فليس في برنامجها -عملياً- ما يمكنها من مواجهة هذه الآفة التي تستبطن كل القوى المعادية (بما فيها إسرائيل)، وتفرض تعديلاً جذرياً على سياق تعاملها مع شؤون بلادها التي ما تزال تستكمل استعادة طبيعتها الأصلية بهويتها الأصلية.

ان الفتنة تظل هي اخطر الأسلحة التي تشهر في وجه الثورة… فهي ان فشلت في حرفها عن مسارها، فإنها قد تنجح في ان تفرض عليها ان تسير بخطى الأضعف، ثم ان تبدأ في ممارسة مساومات منهكة قد تضر بروح الثورة فضلاً ببرنامجها للتغيير.
وفي تجارب أهل المشرق كثير من الانتفاضات التي أجهضتها محاولات دمغها بالطائفية، لإسقاطها في جب الفتنة وحرفها عن أهدافها.
بل إن بعض أهل المشرق، من سوريا (وخلفها لبنان وأمامها العراق) الى اليمن مروراً بالبحرين، يعيشون الساعة تحت ظلال هذا الخطر المدمر للثورات… فما ان تطمس الهوية السياسية للثوار بالتركيز على انتمائهم الطائفي او المذهبي (او العنصري) حتى يفرض التحوير نفسه على برنامج الثورة تحاشياً للفتنة، ويكون ذلك على حساب مطامح الشعب وحقه في التخفف من هذه المعوقات التي كثيراً ما ابتدعها او عظم أثرها الأجنبي لحرف الثورة عن مسارها او لتدميرها كلياً عبر الصراع على موقع الطوائف في سلطة الثورة، التي لا تعود ثورة ابداً.

لقد نجحت الانتفاضة في مصر في إسقاط رأس النظام.. لكن نظام الغد لم يولد بعد، وتبدو ولادته متعثرة ويزيد من خطورة الوضع ادّعاء الإدارة الاميركية بأنها «راعية الثورة» والقائمة على توجيهها.
وفي تونس نجحت الانتفاضة في إسقاط رأس النظام، وهي تتقدم الآن- تحت قيادة الوجوه القديمة – نحو إعادة بناء السلطة برعاية الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا التي لا تفتأ الإدارة في كل منهما تصدر شهادات التزكية والإشادة بالروح الديموقراطية عند رجالات العهد القديم وهم يعملون لبناء دولة للأجيال الجديدة.

في مصر تأخذ الجميع الحيرة حول الخطوة التالية، بينما يتزايد الافتراق بين السلطة الموزعة على المجلس العسكري والحكومة وبين الميدان. هذا في الوقت الذي تحاول «الدول» توسيع نطاق تدخلها. ويكاد لا يمر أسبوع من دون تصريح لمسؤول اميركي يدّعي فيه أبوة الثورة، ويحاول الادّعاء انه قد شارك في وضع برنامجها للتغيير.
والمفارقة ان المجلس العسكري لا يريد السلطة ولكنه مضطر لممارستها، والحكومة التي لا تملك السلطة تواجه من يطالبها بقرار لا تقدر على اتخاذه.. والميدان الذي يتمتع بحق الفيتو، يرفض القرارات لكنه لا يملك البديل خصوصاً أنه ليس موحداً لا في تنظيمه ولا في رؤيته للمستقبل، ولا في قراره.
وهكذا يتوه القرار بين جهة تملك حق إصداره وحكومة غير مؤهلة لتنفيذه، وميدان يملك حق النقض ولكنه غير مؤهل – نتيجة فرقته وغياب البرنامج المشترك ولنقص خبرته – لأن يقدم البديل.
 
لنعترف أن «الربيع العربي» يعيش، هذه اللحظات، خطر السقوط في لجة الفوضى التي يمكن أن تنتهي به الى عكس الأهداف التي جعلها ملايين الشباب في تونس ومصر، خاصة، ثم في ليبيا وسوريا، إضافة الى اليمن، والبحرين، عنوان تحركهم الشجاع من أجل تغيير واقع القمع والغربة عن العصر وحرمان إنسان هذه الأرض من حقوقه الطبيعية في الحياة الكريمة.
ومع التقدير للإنجازات التي تحققت فغيرت في قمة السلطة، في عدد من الاقطار العربية فإن صياغة برنامج التغيير الجذري ما تزال تخضع لمساومات شاقة تحت شعار حفظ الدولة ومؤسساتها من الانهيار، او حماية الاقتصاد الوطني من كوارث الإفلاس نتيجة تعطيل حركة الإنتاج او مبالغة القوى العاملة في مطالبها والتي تكاد تشمل وجوه الحياة جميعاً.
ان الفوضى تمنع الاختيار الصحيح، كما ان غياب القيادات او انعدامها يأخذ الى احد غلطتين: الارتجال في اختيار الأعلى صوتاً والذي قد لا يكون الأعظم كفاءة وقدرة، او العودة الى «مناضلي الماضي» الذين لا يفيدون في الغالب الأعم لبناء المستقبل… وإلا فالتسليم بحكم العسكر.

إن الأنظمة التي شاخت في الحكم وكادت تعطل كل أسباب الحياة منعاً للتغيير قد دمرت المؤسسات وجعلتها تكايا ودمرت الحركة الشعبية بالاعتقال والسجن والرشوة والترهيب والترغيب فأخرجتها من المساهمة في بناء المستقبل الأفضل.
بالمقابل فإن الشباب الجديد بلا تجربة. وهو يرفض كل ما هو موجود وكل من هو قائم بالأمر ولكنه لا يعرف بالتحديد ماذا ومن يريد، وكيف يوصل من يريد – اذا ما عرفه يقيناً وأجمع على اختياره – الى مركز القرار.

لقد كان سهلاً اجتماع الآلاف /عشرات/ مئات الآلاف في الميدان لأن الكل مقهور والكل يريد التغيير، والكل يريد دولة، والكل يريد إسقاط السلطة من اجل استنقاذ الدولة، ويريد إسقاط حزب وأحزاب السلطة ونقابات السلطة التي تزور الإرادة الشعبية للمواطنين في الانتخابات، وللعمال في اختيار قيادتهم النقابية، وللجامعة في اختيار هيئاتها الأكاديمية، الخ.. أما الصعب فهو تمكن أصحاب المصلحة بالتغيير في تسلم زمام الأمور وهم غير موحدي البرنامج او غير مؤهلين لتنفيذه.
السؤال الذي يفرض نفسه دائماً: من أين نبدأ والفساد هو السيد في الإدارة، في المؤسسات الأمنية، في مؤسسات الرقابة، في الأحزاب والنقابات وسائر هيئات التمثيل الشعبي وبالذات المجلس النيابي سواء أكان بغرفة او غرفتين؟
إن الفساد دائرة مقفلة، وهو يمتد ويتمدد من رأس الهرم وحتى أدنى السلم الوظيفي، من الوزير الى الشرطي، ومن عميد الجامعة الى المدرس، ومن القاضي الى الحاجب.

وها نحن نشهد، بأم العين، الحرائق التي تعظم من شأن المخاطر عبر المحاولات الدؤوبة لتفتيت وحدة «الميدان» وتظهير التناقضات بين أطرافه التي لم تنجح في التلاقي على برنامج مشترك.
لقد شهد الميدان، في مصر، فرزاً غير صحي بين الليبراليين والإسلاميين، بين التقدميين والسلفيين، ثم الفرز داخل كل معسكر، مما يهدد بتشتت قوى الثورة وتغييب برنامجها الثوري الموحد.
فالانتفاضات التي أسقطت الأنظمة لا تملك القرار في تحديد الطريق الى المستقبل، خصوصاً أنها لم تكن تملك برنامجها المحدد لها، ولا كان ممكناً ان تحضر مثل هذا البرنامج في ظلال القمع والإغراءات.. لا سيما أن السلطات الحاكمة كانت تملك السيف والذهب.

ان الانتفاضات التي ما تزال في موقع المعارضة تحاول جاهدة التوحد، ودون ذلك عقبات ومخاطر، تمكن للنظام القديم ان يعظمها حتى يصير التغيير وكأنه اغتيال للدولة وتمزيق لوحدة المجتمع، كما يمكن للدول ان تخترقها لتحول الثورة الى نقيضها تماماً، وإلهاء الجمهور بإنجاز خلع الطاغية.

وفي ما يتصل بخارج مصر، ولا سيما سوريا، فإن المعارضين في الشتات أشتات – وكثير منهم تحول الى المعارضة تحت تأثيرقمع النظام لحركة الاحتجاج، وهو يحاول التطهر من واقع انه كان مع النظام الى ما قبل فترة وجيزة فيبالغ في ثورته الى حد تبرير السقوط تحت حماية الأجنبي… هذا اذا هو لم يبادر الى طلبها.
ولقد كان بعض هؤلاء معارضاً متطرفاً يهرب منه المطالبون بالإصلاح… ومن الضروري التذكير بأن بعض المعارضين الذين كانوا ديموقراطيين قد أخذهم التعب او الرغبة في استعجال الوصول للجوء الى العصبيات، عرقية ودينية.. وهذا يزيد من تعقيدات عملية التغيير، ويسيء الى المعارضة بوصفها إدارة للثورة.
والطريق طويل بعد، ومشاقه هائلة..

لكن ذلك كله يؤكد ضرورة الثورة مهما تعاظمت أكلافها.
وليس في واقع الأنظمة، ما كان منها قائماً ومن هو مستمر حتى اليوم، ما يفرض التخوف من بديلها حتى لا يكون أسوأ. فنحن، هذه اللحظة، في الأسوأ تماماً وأي تغيير سيكون نحو الأفضل قطعاً.
في عالم مفتوح لنفوذ الأقوى ولذهب الأغنى لا يمكن الجزم بالانتصار الحتمي للثورة طالما أن الظروف قد نضجت..
فالجماهير قوة عظيمة، لكن تحالف السلاح والذهب يمكنه تزوير المشهد، بحيث تبدو الجماهير منتصرة بينما يحتكر هذا التحالف القرار او يتحكم به حتى تتعب الجماهير فتخلي الميدان لمن طالما حكم وسيحكم بقوة الفراغ! 

السابق
صرخة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال حتى تحقيق المطالب
التالي
مشهدان في الحكومة أَم توزيع أدوار؟