لهذه الأسباب تنحى كاسيزي

لم يتول نائب رئيس المحكمة الخاصة بلبنان القاضي اللبناني رالف رياشي منصب الرئيس الذي تنحى «لأسباب صحية»، بل تقرّر فوراً انتخاب رئيس جديد. لكن ما هي الأسباب الحقيقية لتنحي القاضي أنطونيو كاسيزي المعروف بنزاهته في الأوساط الأكاديمية والقضائية الدولية؟
«لقد حاولت لسنتين ونصف أن أقود المحكمة بصورةٍ فعالةٍ وعادلةٍ في ظل ظروف صعبة»، قال أمس رئيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان القاضي أنطونيو كاسيزي إثر تنحيه فجأة عن منصبه «لأسباب صحية» كما ورد في بيان رسمي صدر من لاهاي. لكن كاسيزي كان قد شرح بعض جوانب «الظروف الصعبة» لـ«الأخبار» في 23 نيسان 2009، بعد أيام قليلة من انطلاق عمل المحكمة، حيث قال: «أنا أشعر أخلاقياً بأنني أعاني ازدواجية، لا بل أنا أتخبّط عندما ألاحظ أننا نقوم بعدالة انتقائية» (الحديث مسجّل ومنشور) ملمحاً إلى إغفال المجتمع الدولي ملاحقة جرائم غوانتانامو والعراق وغزة وغيرها. وشرح كاسيزي أمس أنه لا يشعر بأنه «قادر على تأمين القيادة التي تستلزمها المحكمة والتي تستحقّها». وأعرب عن صعوبة اتخاذ قرار تنحّيه من منصب رئيس المحكمة على الصعيد الشخصي «إلا أن هذا القرار كان القرار الصائب».
ويضطلع رئيس المحكمة بمسؤولياتٍ واسعة النطاق، تتضمن الإشراف على سير عمل المحكمة بفعالية وحسن سير العدالة، وكذلك تمثيل المحكمة في علاقاتها مع الدول، والأمم المتحدة، والهيئات الأخرى. لكن عمل المحكمة الخاصة بلبنان ما زال محصوراً بمكتب المدعي العام ولم تنتقل القضايا الجنائية إلى مرحلة المحاكمات العلنية حتى اليوم، وبالتالي فإن معظم المشاكل التي عانى منها كاسيزي تتعلّق بحسن سير العدالة خلال المرحلة التمهيدية. فقد شهدت هذه المرحلة توترات عديدة بين دانيال بلمار وزملائه.
وكانت استقالة رئيس قلم المحكمة البريطاني روبن فنسنت عام 2009 الشرارة الأولى للخلافات التي وقعت بين المدعي العام وبعض القضاة والمسؤولين في المحكمة على خلفية إصراره على رفع ميزانية فريق التحقيق وتخصيص مكتب للتواصل الخارجي يتبع له حصرياً وبسبب بعض الممارسات التي لا تتناسب مع «أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية« (القرار 1757/2007). وتبع ذلك توتر بين بلمار وقاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين، ما دفع المدعي العام إلى رفض الإجابة عن أسئلة القاضي فرانسين، ومن ثمّ الطعن بقراراته بشأن تسليم اللواء جميل السيد مستندات ليلاحق المسؤولين عن الاعتقال التعسّفي. وبحسب أحد المقرّبين من بلمار في لاهاي، ارتفعت نسبة توتره بعد خسارته جميع الطعون التي تقدم بها أمام غرفة الاستئناف، لدرجة أنه عبّر أمام بعض الموظفين في مكتبه عن امتعاضه من كاسيزي سائلاً: «ألا يفهم أن اختصاص المحكمة ليس جميل السيد، بل رفيق الحريري؟!».

صيغة توافقية مؤقتة

وكشف مسؤول أممي من نيويورك أمس عبر الهاتف أن كاسيزي كان قد أعلم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون منذ نحو أسبوعين بنيته الاستقالة من منصبه، نظراً إلى التباينات بين بلمار وبعض قضاة المحكمة، ونقل إليه شكوى كان قد تقدم بها شفوياً القاضي فرانسين بحق المدعي العام. بحث بان هذا الشأن مع المسؤولين في نيويورك، وتبين له أن التخلي عن بلمار أو عن كاسيزي خلال «هذه المرحلة من عمل المحكمة قد يؤدي إلى نزع ما بقي من صدقيتها، وبالتالي تقرّر اعتماد صيغة «توافقية مؤقتة» بحسب المسؤول الأممي. تقتضي تلك الصيغة تنحي كاسيزي عن رئاسة المحكمة لأسباب صحية، وبقاءه (رغم هذه الأسباب الصحية؟) ضمن هيئة القضاة، في مقابل استمرار بلمار في مركزه بدعم دولي حيث إنه يمثّل اليوم طليعة «الحرب على الإرهاب» عبر استهدافه حزب الله.
 
مسلسل الاستقالات

إضافة إلى استقالة رئيس القلم روبن فنسنت، ترافقت «الظروف الصعبة» التي تحدّث عنها كاسيزي يوم أمس مع استقالة عدد كبير من موظفي المحكمة، أبرزهم دايفيد تولبرت، ورئيس قسم العلاقات العامة بيتر فوستر، والمتحدثة باسم المدعي العام راضية عاشوري (أيار 2010) وخليفتها هنريات أسود (أيلول 2010). كذلك أعلن مدير قسم التحقيق في مكتب المدّعي العامّ أنّه غير مستعد لتجديد عقده، وغادر لاهاي في 28/2/2010. وقبل ذلك بأربعة أشهر (تشرين الثاني 2009)، استقال القاضي هاورد موريسون. وسبق هذا ببضعة أيّام، تقديمُ الناطقة باسم المحكمة سوزان خان استقالتها أيضاً. أما فاطمة العيساوي التي حلّت محلّها فقدّمت استقالتها هي الأخرى في 11/12/2010. يذكر أن الاستقالات ليست مسألة غير عادية في المحاكم الجنائية الدولية، لكنها في حال المحكمة الخاصة بلبنان متعدّدة وسريعة وغامضة.

من هو الرئيس الجديد؟

انتخب قضاة المحكمة الخاصة بلبنان القاضي النيوزيلاندي دايفيد باراغوانث بالإجماع رئيساً للمحكمة وقاضياً رئيساً لغرفة الاستئناف، بعد اقتراح ترشيحه من نائب الرئيس القاضي رالف الرياشي والقاضي كاسيزي.
علق باراغوانث أمس على انتخابه مطلقاً شعارات شبيهة بالتي أطلقها بلمار يوم تعيينه مدعياً عاماً، فقال: «يقتضي اكتساب ثقة الشعب بالمحكمة الالتزام الصارم بسيادة القانون. ومن حق الشعب اللبناني أن تطبّق المحكمة أرفع معايير العدالة من دون خوف أو معروف، ومن دون انحياز أو سوء نية». وتابع قائلاً: «تتمثّل الركيزة الأساسية للمحكمة في قرينة البراءة المُكرّسة في قاعدتين توأمين تقضيان بوقوع عبء الإثبات على عاتق المدعي العام، وبوجوب كون أدلّة الادعاء مقنعة بدون أدنى شك معقول».
وكان باراغوانث قد عُين في المحكمة الخاصة بلبنان في آذار 2009. وفي عام 2010، حاز وسام الاستحقاق من رتبة فارس في نيوزيلندا تقديراً لخدماته في منصب قاضٍ في محكمة الاستئناف في نيوزيلندا.
تخرّج القاضي باراغوانث في جامعتي أوكلاند وأكسفورد، واستهلّ مسيرته المهنية في نقابة المحامين بنيوزيلندا، وعُيِّن مستشاراً للملكة في عام 1983. تولّى مهمتي الادعاء والدفاع في إطار قضايا جنائية كبرى، ولا سيما محاكمات جرائم قتل وجرائم احتيال معقّدة. واضطلع بمهمات قاضٍ في المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف في نيوزيلندا، حيث نظر في دعاوى مدنية، وجزائية، ودولية. ومن عام 1996 إلى عام 2001، ترأس باراغوانث لجنة القانون في نيوزيلندا (New Zealand Law Commission). وفي عام 2004، عُيّن رئيساً للجنة القواعد التابعة لمحاكم نيوزيلندا. وكان عضواً دائماً في محكمة الاستئناف في نيوزيلندا حتى تقاعده في آب 2010. إلى جانب عمله القضائي، ألقى باراغوانث محاضرات عدة وكتب مقالات في مواضيع حقوق الإنسان الدولية والوطنية، والمسائل الدستورية، وسيادة القانون، وكذلك التعاون القضائي الدولي. ودرّس في جامعة كامبريدج وكلية الملكة ماري التابعة لجامعة لندن، وجامعتي ه.ونغ كونغ ومانيتوبا 

السابق
دبلوماسية ناجحة
التالي
علمياً: الحب لا يدوم أكثر من 3 سنوات