أقباط مصر بعد الثورة

لم تكن الاشتباكات الدامية التي وقعت في وسط القاهرة أول من أمس، على خلفية هدم كنيسة قبطية، مفاجئة سوى للذين كانوا يعتقدون ان مجرد سقوط حسني مبارك ووقوف الجيش المصري على «الحياد» في 25 (كانون الثاني) يناير الماضي كانا كافيين لبزوغ فجر جديد على مصر. فذلك السقوط وحده لم يؤسس لمصر الجديدة، المرتاحة من أزماتها الاجتماعية والاقتصادية، وخصوصاً من همّ الفتنة الطائفية الذي لا يغادر بلدة مصرية الا ليعود الى اخرى، مذكراً كل مرة بعمق تلك المشكلة في المجتمع المصري، وبالعجز المتفاقم عن العثور على حلول منصفة وجدّية لها.

ومن اين تأتي الحلول، والمجلس العسكري الحاكم لا يملك رؤية حديثة لمصر، تنقلها من أزماتها في ظل الحكم المديد لحسني مبارك الى عصر الثورة، بما تعنيه هذه الكلمة؟ مشروع العسكريين هو محاولة الحفاظ على الاستقرار، مع الحد الادنى من تلبية الحاجات الوطنية العامة، والوعد بتهيئة مناخ سياسي يتيح انتخابات تعددية تفرز حكماً يستطيع وراثة السلطة. كل هذا في ظل تشكيك لم يتوقف، من قبل معظم الاحزاب المصرية، في جدية المجلس العسكري حيال تنفيذ وعوده بتسليم السلطة فعلياً الى خليفة مدني، بعد أن ذاق كبار ضباطه طعم الحكم طوال الشهور العشرة الماضية، واستساغوا تعيين أعضاء الحكومة وإبعادهم، واتخاذ القرارات الفاصلة في ما يتعلق بالشأن السياسي الداخلي.

أضف الى ذلك الممارسات التي استمرت شبيهة الى حد بعيد بما كانت تعرفه مصر قبل الثورة في مواجهة الاحتجاجات والتظاهرات، ولعل ابرزها ما شاهدناه على الشاشات قبل يومين من مدرعات للجيش تقتحم حشود المتظاهرين امام مبنى التلفزيون المصري، مع ما أدى اليه ذلك الاقتحام من سقوط ضحايا بين قتلى وجرحى تكسّرت عظامهم وتشوهت أجسادهم.
 
ربما كان من الظلم تحميل المجلس العسكري مسؤولية ما ورثه من أزمات داخلية، اخطرها شبح الفتنة الطائفية الذي يخيم على مصر من جديد اليوم. فالحقيقة ان النظام السابق لم يقصّر في استخدام الانقسام الطائفي لتسميم الجو السياسي وتحويل المطالب عن استهداف رأس النظام الى تعزيز الشرخ بين صفوف المصريين. يضاف الى ذلك ان الجيش، في مصر كما في أي بلد آخر، ليس هو المؤسسة الصالحة لإنجاب عملية اصلاحية تقوم على قواعد ليبرالية، من النوع الذي تحتاجه مصر حالياً، كما تحتاجه الدول العربية الاخرى، لتنتقل الى عصر الحداثة المنشود. وبسبب افتقار قادة الجيش المصري الى هذه الرؤية، نجد الاتهامات بانحيازهم المتذبذب الى «الاخوان» والتيارات السلفية تارة، والى الاقباط تارة أخرى، وهو ما دفعهم الى تشديد قبضتهم الامنية في المواجهات الاخيرة، مع العواقب الدامية التي نتجت عنها.

كثيرون سيسعون الى الافادة من الاشتباكات في القاهرة، كي لا نقول انهم سيرتاحون الى ضحاياها. في مصر اولاً، هناك بين التيارات السلفية من يعتبر أن القسوة التي تم استخدامها ضد المتظاهرين هي «درس» للأقباط الذين باتوا، في نظر هذه الفئة، يرفعون سقف مطالبهم بشكل غير مسبوق، مقابل مشاركتهم في الثورة وفي اسقاط النظام السابق.

لكن هناك ايضاً من ينظر، في الدول المجاورة التي تحمل نذر ثورات مشابهة، الى مشهد الانقسام الطائفي في مصر وسقوط الاقلية القبطية مجدداً ضحية له، كنذير لما يمكن ان يهدد اقليات اخرى في تلك الدول، اذا نجحت الثورات في قلب انظمة الحكم القائمة. وهو ما يستدعي السؤال التقليدي الذي يتردد على كثير من الألسنة، من قادة الطوائف وصولاً الى الناس العاديين: هل ان قدر الاقليات في العالم العربي ان لا تجد الحماية الا في ظل الديكتاتوريات؟ وهل يجب ان تقود الحرية السياسية بالضرورة الى تحكّم الاكثرية، في بلاد العرب، بكل ما يختلف معها وعنها؟ أليس في القاموس العربي المعاصر شيء من الليبرالية واحترام الآخر يمكن أن يغنينا عن كل ذلك؟ 

السابق
ثقافة التزوير
التالي
إحدى الكتل الوزارية