وصل الربيع العربي إلى لبنان خريفاً!

في سابق العصر والأوان كان «الشارع» في بيروت وسائر أنحاء لبنان هو الصوت الصارخ في البرية العربية، تختلط فيه اللهجات واللكنات المشرقية والمغربية وان سادت الفلسطينية لفترة غير قصيرة.. وكان عفياً، متعدد النبرة وان ظل الشعار ـ الهدف موحدا. ومن هنا فإن أصداءه كانت تتردد في مختلف جنبات الأرض العربية.
أما اليوم فقد صار «الشارع» شوارع بقدر ما اختلف العرب مع العرب فضيعوا قضاياهم، وانشغل كل «قطر» بهمومه واستقل بميدان له يطلق منه مطالبه، بعدما احال أهل السلطة أزماتهم إلى الأجيال الجديدة فأربكوهم ثم جلسوا يتفرجون عليهم وهم يحاولون استنقاذ ما يمكن إنقاذه من أوطانهم ودولها ومصالحها، مطمئنين إلى انهم قد تركوا من الخطايا والأخطاء ما يكفي لتهديد وحدة المجتمع.. فكيف و«الدول» لا تنتظر دعوة للتدخل، وهل ثمة فرصة أفضل من الفوضى وافتقاد وحدة الهدف وتهاوي بنيان الدولة؟! ثم ان بشاعة أنظمة القمع القائمة قد تسقط الكثير من التحفظات، وقد تبيح بعض المحظورات، إذا ما لبس «التدخل» عباءة حقوق الإنسان، او حماية الثروات الوطنية، او المساعدة على توحيد الثوار وتأمين حياتهم وقدرتهم على إعادة بناء «الدولة» على أسس المعاصرة والحداثة؟!
من المفارقات انه يراد اتخاذ لبنان قاعدة لاستيراد وإعادة تصدير «الربيع العربي» عبر حدوده الشرقية والشمالية مع سوريا، في حين ان هذه الحدود كانت تاريخياً، وفي الغالب الأعم، سالكة في الاتجاه المعاكس: أي عبر هذه الحدود إلى كل من يعنيهم الأمر في الشرق والغرب، ولا سيما الغرب. بمعنى ان «الحدود» كانت كثيراً ما تتحول إلى معابر للرجال والسلاح والمال في اتجاه بيروت، ومن ثم تذهب إلى من طلبها، في الداخل او في الخارج، لتساعد في إنجاز «الخطة المرسومة».
على هذا، فإن لبنان البلا داخل يعيش ازمة انقسام حاد، على ايقاع الحدث السوري وتفاعلاته عربياً ودولياً.. وقد وصل هذا الانقسام إلى الموقف في مجلس الأمن، ورافقته تهديدات بالاستقالة إذا ما «أجبر» لبنان على الخروج على «حياده»، وكان الشعار: هل تروننا، نحن الدولة الصغيرة، في قوة روسيا؟ وهي على أي حال قد أعفتنا من الحرج.

الانقسام في الداخل يتجلى كل يوم، داخل الحكومة وخارجها، و«الموقف» من اية مسألة، سواء اتصلت بالسياسة العليا او بتصحيح الأجور، سرعان ما يتشقق ليغدو «مواقف»، ان في ما يخص المحكمة الدولية ودفع ضريبتها المفروضة بالقرار الدولي، او ما يخص مسألة شهود الزور المرجأ حسمها في انتظار ساعة الصفر، بالمقايضة او بتجاوز «الكريهتين»!
على ان اخطر ما شهدته الحياة السياسية، في الأسابيع الأخيرة، كان ذلك التصادم العلني والمكشوف بين موقف الفاتيكان إزاء التطورات في سوريا، وانعكاسه على احوال المسيحيين في المشرق، وبين الموقف الأميركي الحاد، والذي اتخذ ـ عبر السفيرة الأميركية في بيروت ـ شكل اعلان الحرب على البطريرك بشارة الراعي، مع كل ما تقتضيه حالة الحرب من استنفار سياسي تجلى اكثر ما تجلى، في مهرجان «القوات» الذي استحضر اقطاب 14 آذار ووجوهه جميعاً، فانتظموا صفوفاً من حول البطريرك السابق الكاردينال صفير، ليستمعوا إلى «الاستنفار» بلسان «الحكيم» الذي لا ينطق عن الهوى.

ولقد امتدت هذه الحرب إلى «المركز» في الولايات المتحدة الأميركية، مع الزيارة الرعوية التي يقوم بها البطريرك الراعي، اذ «عومل» ـ رسميا ـ وكأنه «ضيف غير مرغوب فيه»، فلم تحدد له اية مواعيد مع مسؤولين في الإدارة، مما يكشف عمق الازمة بين الفاتيكان وواشنطن وهي سياسية وشاملة، تبدت بعض تجلياتها خلال لقاء البطريرك الماروني، والرئيس الفرنسي ساركوزي.. ثم تولت السفيرة الأميركية في بيروت إكمالها ميدانيا، وبالأمر!
واضح، اذن، ان للربيع العربي أكثر من صورة في عواصم القرار، فإذا كان الفاتيكان يهتم بمصير مسيحيي الشرق، ويحرص على الا «يتورطوا» في معارك وحروب لن يضيفوا إليها ما يكفي من عناصر القوة، لتغيير مسارها، ناصحاً ان يتمسكوا بوجودهم في بلادهم التي كانت دائماً والتي ستبقى دائماً بلادهم، فإن «عواصم القرار» الدولي ـ وواشنطن بالذات ـ تتصرف بما يوحي ان لها موقفاً مغايراً يكاد يشجع مسيحيي المشرق على «الهجرة إلى حيث يتوفر لهم الأمان» مع الاستعداد لتحمل التكاليف! وهذه سياسة قديمة يمكن الاستدلال عليها «بتهجير» منظم للاشوريين والكلدان في العراق منذ الستينيات!

القرار الدولي، اذن، تشجيع من تيسر من الأطراف والقوى السياسية، رسمية وشعبية، على «الانخراط» في مقتضيات «الربيع العربي» وفي سوريا على وجه التحديد.
وهكذا، فلا بد من تشجيع «الانتفاضة» في سوريا ومد يد العون إليها.
الحدود طويلة، ولم تكن في أي يوم تخضع لحراسة صارمة. وهي كانت وما تزال وستبقى، معابر لتهريب مختلف السلع: الأرخص في سوريا إلى لبنان، والأرخص في لبنان إلى سوريا. وللتهريب أهله الذين هم ـ بالمصادفة ـ أهالي القرى على طرفي الحدود، سواء منفردين او عبر «شبكات» لها فروعها الناشطة على الضفتين!
ثم ان عشرات الألوف من البدو السوريي الجنسية قد اكتسبوا بأفضال النظام الطوائفي في لبنان الجنسية اللبنانية، وباتوا قوة سياسية يمكنها ان تبدّل، وهي قد بدّلت، في نتائج الانتخابات النيابية، أكثر من مرة، ولا سيما في معركة زحلة الأخيرة.
إذا جمعت إلى البدو خبراء المعابر والمسالك من أهالي المناطق على طرفي الحدود، بات بإمكانك ان تنشئ اعظم جهاز لتهريب أي كان، وكل شيء، من هذه الجهة إلى تلك: السلاح، الذخائر، الرجال، بل العائلات، إذا اقتضى الأمر، والمؤن!

على صعيد أعلى، سياسيا، يمكن الاستفادة من كفاءة أطراف عربية بينها لبنانيون، لإشراكهم في بعض ثمار الربيع العربي… ولما كان الحلف الأطلسي لا يريد ان يمدّ يديه إلى المال الحرام في ليبيا الثورة، فهو قد سعى لإنشاء كونسورسيوم عربي لحسن إدارة عوائد النفط الليبي، وهي هائلة.
ولقد تطوعت بعض دول الخليج للمشاركة في هذه المؤسسة «الشرعية» آخذة بعين الاعتبار ان تكافئ كل من اسهم في التعجيل في إنجاز استيلاد ليبيا ـ الثورة، تحت غطاء الحلف الأطلسي، بغض النظر عن الجنس والجنسية والدين…
بالعودة إلى الداخل اللبناني فلا بد من الإشارة إلى ان الحكم يعيش حالة من عدم الاستقرار تضعف القدرة على الانجاز، لا سيما على المستوى الاجتماعي. فالمطالب عديدة، وهي بمجملها محقة، وتشمل مختلف الفئات، من الموظفين إلى العمال، ومن أوضاع التعليم ومؤسساته (الجامعة الوطنية والمدرسة الرسمية) إلى الأزمة المفتوحة في مجالات الكهرباء والمياه، إلى أزمة تصريف الإنتاج الزراعي والمنتجات الصناعية في ظل الأوضاع المفتوحة على القلق في سوريا وانعكاسها على المعابر.
ثم ان لكل أزمة، سواء أكانت اجتماعية ام اقتصادية، جانبها السياسي.. فليس سراً ان الحكومة غير موحدة في الكثير من المواقف بدءاً من الشأن السوري إلى المحكمة الدولية ومفاعيلها، وصولاً إلى اللغم الطافي على السطح تحت اسم شهود الزور.. وقد اضيف إليها مؤخراً، الموقف من مشروع القرار ضد سوريا في مجلس الأمن، والذي استولد أزمة جدية مع النظام السوري، وان ظلت صامتة.. حتى إشعار آخر.

ان مشكلات الداخل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، اصعب من ان تحلها التسويات المبهمة او الجزئية.. خصوصاً ان التعارض في المواقف بين المؤتلفين اضطراراً قد بات علنياً، لا يمكن مداراته او التخفيف منه بالنكات او بإنصاف الكلمات.
والخلاصة ان الحكومة التي لا تملك قدرات سحرية لمعالجة الأزمة الاجتماعية، بمختلف تشعباتها، تحرص على كسب ود واشنطن من دون ان تستفز دمشق، ولا تعرف كيف السبيل إلى مساعدات مجلس التعاون الخليجي طالما لم تحصل على جواز مرور من السعودية، ثم انها تتجنب القرار في المسائل الحساسة كتمويل المحكمة الدولية حتى لا تنشق على نفسها.
…والمواطن اللبناني يتابع مسيرة الربيع العربي في الأقطار التي وصلها فأخرجها من غيابها الطويل عن الفعل، متحسراً انه لا يستطيع حتى ان يحلم بربيع يبدل في واقعه المر الذي يحاصره داخل صراع أحزاب الطوائف على السلطة ومغانمها، لا يجد منه مخرجاً لا في الحال ولا في الاستقبال.

الأزمة مفتوحة، لكن ليس من مصلحة أي طرف تفجيرها..
لذا فلا بد من انصاف الحلول التي من شأنها ان تراكم الأزمات، فيتم اختصار تصحيح الأجور حتى لا تفلس الخزينة، وننصرف عن ازمة الكهرباء إلى التسلي بمتابعة المحتجين على خط التوتر العالي في المنصورية!
لكن لا بدّ من حكومة. وهذه هي حكومة كل الفصول!  

السابق
أسئلة الحيرة والقلق
التالي
قافلة مريم 2 تدعم سوريا