ماتت الدولة…

كان طبيعياً أن يتلقّف بعض الإعلام حادثة إطلاق النار في مركز معاينة السيارات في الحدث. الفاعل شيعي. يكفي ذلك لعنوان من نوع: «أشرف السيارات» تتسبب بـ 7 جرحى، على صدر إحدى الصحف. وكان من الطبيعي لهذا البعض أن يستعيد كل «ساغا» غياب الدولة: قبل أسابيع «فاعل» مماثل في أحد النوادي الرياضية النخبوية العريقة في بيروت. دولة كاملة عجزت عن ردعه. حتى حلت «حبياً». قبل الحادثتين وبعدهما، ومعهما لاسا وكحول النبطية وأبنية الأملاك العامة ومحميات سرقة السيارات وسلسلة شبه يومية من حوادث إطلاق النار والخطف من أجل فدية، ومقالات للبعض من «أهل البيت» عن ضرورة حسم الأمور أو السماح للدولة بحسمها…

تبتعد قليلاً عن مشهد الحدث وملحقاته ومحاولات استغلاله في السياسة واستخدامه في الإعلام، ترى الصورة كاملة، فتدرك أن الدولة كمفهوم حتى، تتآكل في لبنان، تكاد تندثر. تفكر في الأمر وأنت عند تقاطع سير ينيره ضوء أحمر ويحرسه «دركي» متهالك من الوقوف. فجأة يطل فتى على واحدة من تلك الدراجات الرعاعية. يعبر عكس السير معرضاً سلامته وسلامة الآخرين للخطر. يبتسم الشرطي، عيناه الساهرتان على الأمن تشجعان المرتكِب. يكاد ينظم له مخالفته بدل أن ينظم بها مخالفة. في تلك اللحظة تفكر أنت في الدولة المنهارة تدريجاً على رؤوس الجميع. يتماهى الشعوران في إحساسك. فترى ذلك الدركي مسؤولا عن كل شيء. تكاد تخرج إليه ثائراً منتفضاً صارخاً في وجهه، موبخاً مؤنباً مبكتاً لجريمته المشهودة بخيانة سلطة الدولة وهيبة الدولة وحرمة الدولة. قبل ان تتردد، تتهيب وتحسب:

ماذا لو كان أكثر جرأة وصراحة مني؟ ماذا لو صرخ فيّ: لا ترمِ علي أثقال جبانتكم أنتم أهل الإعلام وخبث أولئك أهل السياسة، وانتفاعكم المتبادل. تسألني عن الدولة؟ أنا المسؤول عن سقوطها؟ أم هذه الدراجة النارية العابرة؟ هل سألت نفسك عن رؤوس الدولة أولاً قبل مساكينها؟
إسمع إذن يا هذا: أنت تعرف أنك في دولة رئيس جمهوريتها منتخَب بشكل مخالف للدستور، وقبِل هو وقبلتم، وسكت هو وسكتم. ثم إنه الرئيس نفسه على «صلة» بملف تزوير جواز سفر في دولة أوروبية، ملف لم يطوَ إلا على قاعدة «منطق الدولة» (raison d’Etat) حيث يكون لا دولة ولا منطق. فهل تجرؤ على فتح الملف وانت تعرفه جيداً؟ أم أنك لا تقدر إلا على راكب تلك الدراجة المسكين؟ 
ثم أنت في دولة رئيس حكومتها على «صلة» مماثلة عبر شركة مسماة عليه، بملف قرصنة وسرقة اتصالات وهدر مال عام. فهل سمعت أو قرأت كلمة عن الموضوع رغم صدوره في قرار ظني؟ حتى على صفحات المتندرين بلغة «اشرف الناس»؟ لماذا برأيك؟ هل لأن الكبار لا يحاربون بأنفسهم، بل بنا نحن الصغار؟ أم لأن خلف الطرفين جهة واحدة تحدد شروط «المصارعة» المصطنعة بينهما، على طريقة هالك هوغان ورفاقه؟؟
ثم انت في دولة «طبلتم» دنياها قبل اسابيع بالنشر أن رئيساً سابقاً لحكومتها سطا على قصر مواطن وسلبه منه وصادره واحتله وسكنه ولا يزال. فماذا حصل؟ هل سألكم رئيس أو وزير أو قاض عن الموضوع؟
ثم أنت في دولة تعلم جيداً أن وزيرها المعني بأمري وأمرك، على «صلة» ايضاً بملف جرم شائن، وحكم قد يكون شبه صادر. فهل تكلمت عنه أو اشرت إليه قبل أن تحملني مسؤولية سقوط الدولة أنا وابن المقداد؟؟

كدتُ في مخيلتي أحاول الانكفاء والانسحاب بصمت، قبل أن يعاجلني صوت الدركي الثائر: أين تذهب؟ لم أنته منك بعد، أمس قال لك وزير سابق ان «موظفاً غير مدني» على «صلة» بعملية قتل وسرقة مليون يورو. هل سألك أحد عن الموضوع؟ هل سأل أحد أحداً أصلاً؟ وقبله قال لك وزير آخر إن أكثر من 30 مليار دولار دُفعت فوائد من جيبي وجيبك، وإن نحو 80 في المئة منها ذهبت الى ألف حساب مصرفي فقط. هل علمت أن رجلاً في هذه الدولة اهتم أو تحرك حيال أكبر سرقة في التاريخ؟
تريد بعد؟ أنت تعرف قصة الجمارك واتصالات التهديد، هل تجرؤ على روايتها؟ وانت تعرف أكثر من ذلك بكثير عن «الترويكا» الجديدة غير المعلنة والحاكمة للبلد، بين من لا تجرؤ على تسميتهم وبين قوَّادي الخليج الجدد وبين وأصحاب علب الليل، فهل ستكتب عنهم؟ أم انك لا تجرؤ ولا تقدر إلا على هذا المسكين الساعي إلى لقمته على الضوء الأحمر؟؟
نعم الدولة سقطت. بل ماتت. لكنها ماتت فوق، في رأسها، لا عندي على هذا التقاطع. وليست المرة الأولى التي تموت الدولة عندنا. ماتت قبلاً سنة 75، فذهبنا الى الحرب. وماتت مرة ثانية سنة 90، فذهبنا إلى الاحتلال، لندرك بعد التجربتين، وبثمن دمنا وجرحنا ووجعنا، أننا لا يمكن أن نحيا بلا دولة. وفي المرتين، استفقنا، وفشلنا. علنا هذه المرة، بعد أن نلتقي فوق متراس، او تحت وصاية، نفيق ولا نفشل. إمشِ الآن، الضوء أخضر أمامك… 

السابق
مصادر 14 آذار: معادلة نصر الله ضد التمويل ومع الحكومة غير قابلة للحياة
التالي
النظام السوري والمنطق العبثي!