هيداك المرض ةأخطر من السرطان!

ما ان تدخل منزل مصاب بالسرطان، حتى تشعر كأن المرض يخيّم على أصحابه. نظرات الخوف تملأ المكان وتطفو على الزائرين، كأنهم في "زيارة وداع". تطالعك من بين وجوههم ابتسامة ارتسمت بضيق على وجه فادي م. صاحب الأعوام الثلاثة والعشرين. "يتصرفون وكأن موتي قدر محتوم، كأنه مسألة وقت لا أكثر. أنا ارفض ذلك، أنا سأشفى، لكنهم بجهلهم يضعفونني".
ابتسامة فادي سرعان ما تتحول إلى ضحكات مرحة وسط أصدقائه. يبادر ضيوفه من زملاء الجامعة: "أنا أول واحد على طاولة الأربعمية"، ويقوم مستعدا لبدء اللعب. "انتو ضامنين حالكم لبكرا، انا الله اعلم شو بيصير"، يقول ضاحكاً ثم يضيف بجدية: "إذا ما ضحكت ع السرطان بيضحك عليّ".
من "هيداك المرض" إلى "المرض البعيد"، عبارات نألفها ونكررها كلما خشينا ذكر اسم "السرطان". ولعلها على بساطتها تدل على أن مجتمعنا يعامل الشباب المصاب بالسرطان بجهل. توضح الباحثة الاجتماعية بتول زين الدين "أن المجتمعات الشرقية متداخلة البنية الفكرية والاجتماعية وتحكمها تقاليد تتصف بالحميمية، وكثيراً ما يقلقها التفكير بالمرض والموت, اسم السرطان ارتبط بالموت في المفهوم الشعبي، وانتقل بكل أسف ليصبح الموت معنى آخر لمرض السرطان، ما يبعث على الخوف وعدم إدراك كيفية التصرف، خاصة مع المريض الشاب. وقد انتقلت هذه الأفكار إلى الموروث الشعبي، ليصبح إحدى ديناميات سلوك الجماعة، وبالتالي الإسراف في الخرافة والجهل".

السرطان.. مرض

إن دواعي الجهل في التعامل مع مريض السرطان والخوف الذي يبدأ منذ مرحلة إعلان النبأ، ليست موضوعية. الطبيب المختص في أمراض الدم والأورام وأستاذ كلية الطب في جامعة البلمند والقديس يوسف الدكتور نبيل شمس الدين يؤكد أن "السرطان أكثر من مئة نوع، والناس تتعامل معه وكأنه مرض واحد. الآن هناك 60 في المئة من حالات هذا المرض يمكن الشفاء منها. وعلى الجميع أن يدرك أن العلاج يكمن أولا في مواجهة المرض ومعرفته. لكن في ما يخص مجتمعنا، للأسف، فإنه لا يدرك أن السرطان مرض غير مخيف وغير معد، كما أن نسبة الشفاء الأعلى هي عند الشباب، بسبب قدرتهم الجسدية".
الهم الأكبر الذي يلبس المريض أمام السرطان، هو سلوك الناس تجاهه ومحيطه بالأخص، وعدم مراعاتهم لما يتعرض له من تغيرات جسدية ونفسية. فأكثر ما يميز السرطان عن غيره من الأمراض، انه يفرض على المريض نمطا جديدا من الحياة وواقعا عليه التعايش معه. محمد ح. شاب في الثلاثين، مصاب بالسرطان، يروي متألما: "توقفت عدّة مرات عن تلقي العلاج الكيميائي. البعض كان يعاملني بشفقة والبعض ينظر إلي وكأني مخلوق فضائي، حتى أن أصدقائي باتوا يتجنبونني، ولو كان الأمر بحسن نية ومن اجل راحتي، إلا أن هذه الأمور كانت أصعب عليّ من السرطان نفسه. أستطيع مقارعة السرطان الذي بداخلي، لكن القاتل الحقيقي هو ذاك الجهل في التعامل مع المريض، انه سرطان أخبث مما أصابني". وتفسرّ زين الدين هذا بأن "المريض يكون في حالة صحية ومعنوية سيئة، تنعكس على كل من حوله، من أسرته إلى أقربائه إلى المجتمع أيضاً. تساقط الشعر والألم المفرط وشحوب لون البشرة والتعب الدائم تدفع المحيط أحيانا إلى الابتعاد عن المريض، فهم لا يستطيعون التخفيف عنه، كما أن هذه الظروف تضعهم في حيرة بين الاهتمام المفرط أو النكران، وهو ما ينعكس كشفقة حينا أو تجنّب". 
إلا أن الأخطر في هذا الجهل وما يمكن أن يكون أحيانا بمثابة حكم الإعدام على المريض، هو تحويله من مصاب بالسرطان إلى ضحية. وإذا كان المصاب أقوى من المرض ونجح في التغلّب عليه وأخرجه من جسمه، فإن المرض قد يلاحقه بقية حياته. وقد تمتد آثار الجهل حتى ما بعد الشفاء، وتطال نواحي عدة، اجتماعية ومهنية وغيرها في حياة من سبق وأصيب بالسرطان ثم شفي منه.
تخبر نجلاء أ. (29 سنة) بعد رحلة علاجها الطويلة الناجحة: "مضت ستة أشهر على شفائي التام، وما زلت أرفض في كل وظيفة تقدمت إليها، بمجرد أن يعرف رب العمل بمرضي السابق، وفي عملي القديم لا يقبلون عودتي. أنا إنسانة لا أطلب أي شيء بعد مرضي، لا أريد إلا المساواة"، تقول نجلاء بألم منبعه جهل الناس لا المرض ذاته.
قصة أخرى تشبه ما تعانيه نجلاء. "أنا مجرم سابق. نعم، الناس تتعامل معي على هذا الأساس، وكأن سجلي الإنساني أسود بفعل بمرضي. بت أحمل سجلّ مريض سابق، وكأني ارتكبت خطيئة ما، وأحاسب على أساسها"، يشكو جورج س. (32 سنة) بعد أربع سنوات من شفائه من السرطان. ويتابع بأسى: "كل فتاة تقدمت لخطبتها رفضت من أهلها عندما عرفوا أني مريض سابق!".
قصة حياة يخرج فادي من آخر جلسة علاج. يمازح أباه: "هذه المرّة سأترك صديقي هودجكنز (نوع من أنواع السرطان) في الداخل". يتنفس ملء الكون: "أدركت أن القوة أو الضعف بالدرجة الأولى يكمنان داخلي، ومن أكون ينعكس على كل من حولي، وبالتالي يرتدّ علي. السرطان غيّر حياتي فعلاّ، خسرت مالاّ ووقتاً وبعض ما قد بنيته تهدّم، لكني كسبت حياة جديدة بصبري، اختبرت ذاتي وربما تعرفت عليها لأول مرة، عرفت أن أشرعة الأمل قادرة على أن تميل بوجه أي ريح عاتية. أذكر عندما خسرت شعري كليا بسبب العلاج، في اللحظة التالية خرجت من باب المنزل. لم أخجل ولم أضعف، بل واجهت..". يقول مسرعا قبل أن يستأذن بسبب ارتباطه بموعد يحتفل فيه مع أصدقائه بتخرجّه من الجامعة.
يصرّ الدكتور شمس الدين على أن "الحلول تبدأ بنشر الوعي حول حقيقة المرض والمريض بالسرطان، من خلال حملات توعية تقع أولاً على عاتق الدولة ومن ثم على عاتق المجتمع المدني، من أجل تشكيل وعي عام يودي بالمجتمع إلى تعامل إنساني مع المريض الذي بعد شفائه سيعود إلى قدراته الكاملة والطبيعية، ذهنيا وجسديا". ويضيف: "ما يساعد في التخفيف من هذا الجهل، أن يقوم من يهتم من الأهل والمحيطين، بالبحث عن المعرفة والمعلومات الدقيقة حول المرض، تنمية الثقة بالفريق الطبي المعالج، والتصريح عن دواعي قلقهم وخوفهم للأطباء للحصول على التأكيدات التي قد تزيلها، ومن المفيد كثيرا التحدث إلى مصابين بنفس المرض ومعرفة تجاربهم وكيف تمكنوا من التعاطي مع الوضع".
تجارب بعضها يجعلنا نتساءل عن حقيقة المرض الخبيث: هل هو المرض العضوي أم انه مرض الجهل؟ وكم من أناس في حياتنا اليومية أو من محيطنا ممن أصيبوا بالسرطان، أدى جهلنا إلى انتكاس وضعهم الصحي، بما قد يوصل إلى إنهاء حياة إنسان وتدميرها. 

السابق
24 إصبعا لغسل الشعر!
التالي
أكثر من 1751 مصابة سنوياً في لبنان…إكشفي الآن قبل الندم !!