قاموس العاهر والسعدان والجاسوس

أكثر من إشكالية تطرحها وثائق «ويكيليكس» اللبنانية على المجتمع والحياة السياسيين في لبنان. طبعاً، ثمة جوانب خارجية للموضوع، منها الإضاءة على مدى التزام الممثليات الدبلوماسية في بيروت بأحكام معاهدات فيينا، لجهة احترام سيادة الدولة والخضوع لأعراف العمل الدبلوماسي وضوابطه وأصوله. كذلك ثمة جانب آخر خاص بالإضاءة على طبيعة عمل الدبلوماسية الأميركية. فالصحيح طبعاً أن من واجبات الدبلوماسي أن يحيط إدارته علماً بكل ما يكتنزه من معطيات ومعلومات. لكن، في السياق نفسه، هل يفسّر ذلك مثلاً أن يكتب جيفري فيلتمان تقريراً تحليلياً نفسانياً عن شخصية سعد الدين الحريري وطبائعه يلامس حدود البحث الأكاديمي السيكولوجي مع نص من أكثر من ستة آلاف كلمة لم توفر تفصيلاً من حركات وجهه إلى نوع النبيذ الذي يشربه على طائراته الخاصة؟ في حالات كهذه، أين تقع الحدود العملية والمنطقية، بين العمل الدبلوماسي والعمل الاستخباري الأمني، بنمطية رجل المعطف الكاكي الطويل والنظارات السود ومقعد الحديقة والصحيفة المثقوبة؟

لكن الأهم في دلالات قاموس ويكيليكس هو ما يتعلق بثقافتنا السياسية ونظامنا وآلية عمله وضبطه وتوازنه. ذلك أن من الممكن لأي عامل في الشأن العام أن يلتقي دبلوماسياً، وأن يتحادث معه في السياسات كلها، من البلدي إلى الإقليمي والخارجي… غير أن اللافت في قاموسنا الويكيليكسي اللبناني المكشوف، هو هذا التخصص والتفرغ وحصرية الكلام في القدح والذم والنم و«الحرتقة» و«التفخيت»، مثل تلامذة صف أول ابتدائي في مكتب ناظر الملعب. هل طبيعي، مثلاً، في لقاءات دبلوماسية أن يصف سعد الدين الحريري صحافياً بالعاهر أو سياسياً بالجاسوس؟ أو هل طبيعي أن يصنّف سمير جعجع بعض المفترضين من حلفائه، مثل ميشال المر أو منصور غانم البون، بأنهم قردة أو سعادين؟ وهل يعقل أن يبلغ الأمر حدود العائلة الواحدة، فيقول المر الابن عن والده إنه «ساذج»؟ وصولاً إلى مئات الأوصاف المماثلة والمفردات المشابهة التي يعجّ بها كنز ويكيليكس.

هذا الجانب من تلك الوثائق لا بد أن يجعلنا نتوقف عند دلالات أساسية بشأن حياتنا السياسية والوطنية العامة، من زاوية السؤال: ما الذي يفسّر تصرفات كهذه؟ لمجرد التفسير، على اعتبار أن لا شيء إطلاقاً يمكن أن يبررها. أو كيف يمكن ارتكابات كهذه أن تكون مفهومة، بالانطلاق من أنها لا يمكن قطعاً وأبداً أن تكون مقبولة. 
ثمة جانب أول تضيء عليه «سطوحنا» الويكيليكسية، وهو ما قيل وكتب عنه الكثير: إنها ذهنية القناصل التاريخية. يردّد كثيرون أن في لبنان انطباعاً قديماً تحول طبيعة ثانية عند كثيرين من متعاطي الشأن العام، بأن هذا البلد، هذا الكيان، هذه الدولة، هي من صنع القناصل. منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وقيام نظام القائمقاميّتين ومن ثم المتصرفية وبروتوكولات الدول السبع، حتى جنيف ولوزان والطائف وسان كلو والدوحة…كلها مسميات خارجية لمعنونات «دبلوماسية». هكذا يتسلّل إلى لاوعي تاريخي ما عندنا، إلى ذاكرة جمعية لدى نخبنا المزعومة، أن القنصل الذي أسّس لمّا يسمى «طائفتنا» نظامها الأول قبل 160 سنة هو نفسه السفير أو السكرتير الذي يجلس الآن أمامي في مكتبي أو في مكتبه أو إلى طاولة غداء أو عشاء، من التي تفيض بها مفكرة آخر سكرتير ثالث غير مقيم في بيروت لدولة من أقصى مجاهل الأرض. يصير ضيفاً مميزاً على طاولات تفاهاتنا، تحيط بها سيدات مجتمعنا المخملي، اللواتي يسكنهن اليقين بأنهن قادرات على صنع مراكز أزواجهن من نيابة وأعلى…وثمة شواهد كثيرة ووقائع.

لكنّ ثمة جانباً آخر للكارثة التي نعيشها. إنها سبل إنتاج الطبقة السياسية في لبنان في العقدين الأخيرين، وحاضنات توليدها في نظامنا السياسي المقفل. وقد يلزم شرح كثير لهذه المصيبة، لكن اختصارها أن آلية نظامنا وطرق انبثاق سياسيينا فيه، لا علاقة لها بتمثيل الناس أو كونهم مصدر السلطة. ليس الشعب من ينتخب أو يراقب أو يحاسب. هكذا يصير اليقين لدى السياسي المولود في هذا الواقع أنه لا أحد سيحاسبه مهما ارتكب، ما دام مندرجاً ضمن هذه المافيا التي اسمها النظام اللبناني، في تداخل بنياته الأوليغارشية الكوزانوسترية، من بعض مال وأحذية ثقيلة وبعض إقطاع وبيوتات وبعض أثواب سود من كل «العائلات الروحية» (أي عائلات وأي روح؟؟) وصولاً إلى كثير من «البعض» الخارجي.
يبقى جانب أخير لفهم قاموس ويكيليكس. إنه المال. نعم المال بالمباشر. فاللغة التي نقرأها في بعض تلك المعلقات، ألا تشي بقاموس مخاطبة من يقبض لمن يدفع؟ من يأمر لمن يأتمر؟
هذا بعض من دلالات قاموس ويكيليكس اللبناني للراشدين فقط، وعمّن فقدوا كل رشد في السياسة والوطن. 

السابق
الخليج: التغيير أقوى من المال والأمن
التالي
العدو يُحيي ذكرى أسر ثلاثة من جنوده في المزارع