ثورة أخلاقية أيضا!

ا نولي أهمية جدية وصادقة في حياتنا السياسية للأخلاق، ونعتبر ببساطة أن السياسة نقيض الأخلاق والأخلاق عكس السياسة. لذلك ترى الناس عندنا إما يكرهون السياسة ويرفضون الانخراط فيها وقبول ممارساتها ورموزها، إن كانوا من الأخلاقيين، وإما يرفضون الأخلاق ويرون فيها مسألة قليلة الأهمية وبعيدة عن الواقع ومستلزماته، إن كانوا من السياسيين. ورغم نماذج رائعة عرفها تاريخنا القديم والحديث، فإن السياسة تعد عندنا ميدانا للكذب والعنف والخروج على القيم والمبادئ الدينية والوضعية، حتى إن عامة الناس يبدون غالبا تساهلا غير مسوغ في كل ما يتصل بتصرفات السياسي وكلماته ووعوده، فإن لفت أحد نظرهم إلى خروج ما عن القيم والأخلاق يسم أفعالهم، سألوه باستغراب: هل كنت تتوقع أن يفعلوا غير ما فعلوه؟! وهل نسيت أنهم ساسة؟!

لكن صحوة أخلاقية أخذت تنتشر في عالمنا العربي خلال السنوات الأخيرة، تجلت أول ما تجلت في التمييز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، ثم في فرز هائل أعقب ذلك أو صحبه داخل مجتمعاتنا، قسم الخلق إلى معسكرين: واحد مجتمعي يضم مواطنين عاديين كثيرين، يرى السياسة من منطلق أخلاقي أيضا ويطالب السلطات بالالتزام بأسس أخلاقية في رؤية الأمور والتعامل معها. وثان سلطوي استمر في اعتبار المصلحة أولوية تحدد أي شيء عداها، من المحتم أن يخضع لها كل شيء، باعتبار أن خدمتها والتقيد بمتطلباتها هما جوهر الأخلاق، التي لا أخلاق في السياسة غيرها. هذا المعسكر، الذي رأى في المصلحة مسألة تتعلق أساسا بالسلطة وسلوكها وخياراتها، أقنع نفسه وحاول إقناع مواطنيه بأن ما يخدم السلطة أخلاقي وما يضر بها ضد الأخلاق، بينما رأى المعسكر الأول أن الأخلاق شأنها في ذلك شأن السياسة، لا يجوز أن تخدم مصالح ضيقة، لأنها هي ذاتها مسألة عامة، ومن الحتمي أن ترتبط بخدمة عامة البشر وتجعل «سيد القوم خادمهم» كما كانت العرب تقول، خصوصا وأنها تنصبّ في جوهرها على تدبير الشأن العام، الذي هو في السياسة كما في الأخلاق شأن مجتمعي وفردي في آن معا، ولا بد ينهض على مشتركات وأسس جامعة.

 
هذه الصحوة الأخلاقية، التي ترجمت نفسها إلى صحوة سياسية من نوع نبيل، لعبت دورا مهمّا في اليقظة العامة التي نعيشها يوميا في كل مكان من عالمنا العربي، واتخذت صورتين ملموستين: من جهة نزول الشعب إلى الشارع مطالبا بسياسات تلتزم بقيم ومبادئ روحية سامية يسعد تطبيقها الإنسان ويريح الجماعات، كالعدالة والمساواة والحرية وحفظ الكرامة واحترام الحياة والأمان الشخصي والجماعي والملكية… إلخ، ومن جهة أخرى مسارعة بعض الحكومات إلى اتخاذ تدابير من شأنها تحقيق قدر أكبر من العدالة والحرية في استجابة استباقية لمطالب الناس. في الحالة الأولى يرى الناس في الخلاص من حالهم السياسي القائم مقدمة ضرورية لتقدمهم نحو واقع سياسي إنساني السمات من نمط جديد، هو بالتالي أخلاقي المضامين، أما في الثانية فإنهم يرون في ما يتم من خطوات تقدما مقبولا بهذا القدر أو ذاك ينضوي في سياق واقعهم، الذي يشير إصلاحه الجزئي إلى أنه يتغير نحو الأفضل، وإن على الصعيد المادي، صعيد العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل وما يتصل بهما من مسائل.

في مقابل هذا النهوض الأخلاقي الهائل، الذي لم يكن أحد يتوقعه قبل سنوات قليلة، رغم أن بعض المفكرين والمراقبين ترقبوا حدوث رد فعل ما ضد الانهيار السياسي والأخلاقي القاتل الذي حكم على العربي الفرد بالصمت الذليل، وعلى شعوب أمته بالهامشية والاستكانة للظلم والخوف، هناك سياسات رسمية تسود بلدانا عربية بعينها تفتقر إلى أدنى حدود الأخلاق والإنسانية، تراهن على تخويف المواطن إلى الحد الذي يبقيه في حالة موت شتوي دائم، يقبل أن يُذل ويهان ويُسرق وتُنتهك كرامته دون أن ينبس ببنت شفة، بينما تتبنى ممارسات تقوم على شق الجماعات التي يتكون شعبها منها وعلى تأليب بعضها ضد البعض الآخر، باعتبار أن من الحكمة والسياسة شحن نفوس المواطنين الخاضعين لها بالبغضاء والغل ضد كل من لا ينتمي إليهم، وأن كل فرد من أفراد شعوبهم يجب أن يكون خصما وعدوا لغيره، فإن خطر له أن يخرج من هذه المعادلة وينضم إلى سواه في المطالبة بأية حقوق اتهم بالعصيان وشق عصا الطاعة والخروج على الجماعة، وكان بانتظاره عقاب قد يبلغ حد قتله وتصفية أسرته وأصدقائه.

هنا، لسنا أمام حالة انفصال عادية بين السياسة والأخلاق، وإنما نواجه سياسة تقوض أية مرتكزات أخلاقية من أي نوع كان، بما في ذلك تلك التي ترتبط بالمصلحة، وتقلع عن حمل أية صفة عامة، وتصير فئوية وحتى فردية، مع ما يترتب على ذلك من انهيار في السياسة، التي لا تعود شأنا له سمات عامة، وتقتصر على خدمة مصالح خاصة وتصير شأنا خاصا وفي حالات كثيرة أمرا شخصيا يخدم أفرادا بعينهم، يدل وجودهم بحد ذاته على مدى التدهور الذي بلغته الجماعة الوطنية التي يفترض أنهم ينتمون إليها على الصعيدين السياسي والأخلاقي. لذلك، ليس من المبالغة القول إن المجتمعات العربية تعيد اليوم للأخلاق مكانها ومكانتها من وجودنا، وتعيد تأسيس السياسة على أرضية أخلاقية جديدة تتفق وسمتي الأخلاق الرئيستين: عنيت طابعها الروحي وعموميتها، فالأخلاق تكون في خدمة الجميع أو لا تكون، ومثلها يجب أن تكون السياسة، إن خدمتا معا القيم نفسها والجهات عينها، وأدتا إلى ترقية الحياة الإنسانية، على غرار ما حدث مرات كثيرة في تاريخ العالم والعرب، عندما رأت السياسة نفسها بمنظار الأخلاق وخدمت الأهداف التي تلزمها قيمها بخدمتها.

سيسود العالم العربي في المستقبل شعوران متناقضان: شعور بالخجل والعار مما ارتكبته السياسة في تاريخنا الأخير من انتهاك لضوابط الأخلاق، وشعور بضرورة بناء العالم السياسي على أرضية معايير أخلاقية تكون حامل العمل العام. وسيتغلب الشعور الثاني على الأول، بعد أن ينجح التغيير السياسي المطلوب شعبيا ومجتمعيا، ويقف العرب على أقدامهم في أعقاب فترة طويلة وقفوا فيها على رأس سياسي غير أخلاقي قوض الكثير مما أنجزه آباؤهم وأجدادهم على كل صعيد، خلال تاريخ طويل نهضوا معه وبلغوا قمة التطور والمدنية، عندما راعوا الأسس الأخلاقية في وجودهم، وانحدروا إلى الدرك الأسفل عندما أخرجوا الإنسان من السياسة، وحولوها إلى تجارة رخيصة ومغانم خاصة بقلة أو حتى أفراد! 

السابق
هل عادت العلاقة بين الجنرالين إلى مربع الشك الأول؟
التالي
الاعتراف بالمجلس السوري