هل ستلاحق المحكمة صحافيين؟

بعد تسريب محققين في مكتب دانيال بلمار بعض وثائق التحقيق الى «سي بي سي»، وبعد مقابلة مراسل «تايم» المزعومة مع احد المتهمين الأربعة، وبعد تسريب تسجيلات الى «نيو تي في»، لمّحت المحكمة الدولية الى احتمال ملاحقة صحافيين، بينما يستمرّ تمنّعها عن ملاحقة المسرّبين الحقيقيين 

إثر نشر مجلة «تايم» الأميركية مقابلة ادعت أن مراسلها في بيروت أجراها مع أحد الرجال الأربعة الذين اتهمهم المدعي العام الدولي دانيال بلمار بالضلوع في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، طرحت في بيروت أسئلة عن احتمال استدعاء المحكمة الخاصة بلبنان المراسل للتحقيق معه بهدف تحديد مكان وجود المتهم. ورغم تولي المدعي العام اللبناني القاضي سعيد ميرزا التحقيق في الأمر، تساءل اعلاميون لبنانيون عن احتمال طلب أي من الفريقين (الادعاء أو الدفاع)، خلال المرحلة المقبلة، استدعاء صحافيين للمثول أمام المحكمة في لاهاي بصفتهم شهوداً، وعلى خلفية مقابلات أجروها مع أشخاص تشتبه فيهم المحكمة أو تتهمهم بالضلوع في الجريمة، أو في جرائم أخرى متلازمة. مع الاشارة الى أن لائحة المتهمين لن تقتصر على الرجال الأربعة الذين صدرت في حقهم مذكرات توقيف في تموز الفائت، بل يرجّح أن تصدر قرارات اتهامية خلال العام المقبل قد تستهدف قادة في حزب الله عملاً بالمادة 2 من نظام المحكمة (المرفق بالقرار 1757) والتي تحدّد المسؤولية الجنائية للمرؤوس والرئيس.

استدعاء مراسل «تايم»

لم يكن قرار المحكمة عدم اتخاذ أية اجراءات قضائية فورية بحقّ مراسل مجلة «تايم» التي نشرت في 19 آب الفائت مقابلة ادعت أنها أجرتها مع أحد المتهمين الاربعة في جريمة اغتيال الحريري، مفاجئاً لمتابعي الحساسية التي تتميز بها علاقات المحاكم الدولية بالصحافيين. تُرك الامر الى القضاء اللبناني الملزم تنفيذ مذكرات التوقيف الدولية الصادرة بحق المتهمين، رغم أن الاختصاص القضائي في كلّ ما يتعلّق بالجريمة يعود حصراً الى المحكمة الدولية، كذلك كرّر المسؤولون فيها في معرض تعليقاتهم على قضية شهود الزور وحقّ اللواء الركن جميل السيد وآخرين مقاضاة المسؤولين عن اعتقالهم التعسّفي لنحو أربع سنوات. على أي حال، بدا أن قضية مقابلة «تايم» انتهت عملياً في لبنان، اذ إن الصحافي نيكولاس بلاندفورد الذي استُدعي الى قصر العدل، أكد للقاضي ميرزا عدم معرفته بهوية زميله الذي أجرى المقابلة المزعومة، ولم تتمكن أجهزة التحقيق المحلية من جمع معلومات عن المقابلة وما اذا كانت قد حصلت فعلاً.
لكن هل انتهت القضية فعلا؟ لنراجع قضية مشابهة الى حدّ ما، حصلت عام 2001 اثر استدعاء غرفة الدرجة الاولى في المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، المراسل الصحافي الاميركي جوناثان راندل، على خلفية نشر صحيفة «واشنطن بوست» في 11 شباط 1993 (قبل نحو ثماني سنوات) مقابلة مع المسؤول الصربي رادوسلاف بردانين، دافع خلالها عن سياسة التطهير العرقي والإبعاد الجماعي. استناداً الى ذلك، لا يستبعد قيام دوائر المحكمة الخاصة بلبنان بخطوة مماثلة بحق مراسل مجلة «تايم»، أو الاعلاميين العاملين في غيرها من المجلات والصحف والتلفزيونات والاذاعات، لكن الامر يبقى مرهوناً بالاستراتيجية التي سينتهجها المدعي العام الدولي كما سنشرح لاحقاً في هذا النصّ.
«الأخبار» سألت أول من أمس المتحدث الرسمي باسم المحكمة الدولية مارتن يوسف عما إذا كان في الامكان أن تطلب المحكمة الخاصة بلبنان من صحافيين الادلاء بشهاداتهم أمام المحكمة؟ فأجاب: «يُتاح للادعاء ولفريق الدفاع ولممثلي المتضررين وللقضاة الطلب من الشهود، بمن فيهم الصحافيون، الادلاء بافاداتهم أمام المحكمة». وهل يمكن أن يصدر قرار اتهامي بحق صحافي؟ أكّد أن الصحافي «لا يتمتّع بحصانة من الملاحقة القضائية اذا تجاوز قراراً صادراً عن المحكمة، أو اذا ثبت ارتباطه بأي من الجرائم التي تعدّ من اختصاص المحكمة. وتطبّق القواعد على الصحافيين بقدر ما تطبّق على أي شخص آخر».
ورداً على سؤال: هل يمكن أن يطلب المدعي العام من مراسل «تايم» الذي ادعى أنه أجرى مقابلة مع أحد المتهمين، الادلاء بافادته عن مكان وجود المتهمين؟ قال: «لن أعلّق على هذه القضية المحدّدة، لكن عموماً، يمكن للادعاء وفريق الدفاع وممثلي المتضررين والقضاة استدعاء أي شاهد للادلاء بافادته (أو افادتها)». وعما اذا كان ما نقلته صحيفة «المستقبل» عنه من أن «المدعي العام قد يصدر قراراً اتهامياً بحق الذين اتهموا المحكمة الخاصة بلبنان» دقيقاً، أجاب: «كلا».

استراتيجية المدعي العام

قبل عرض تفاصيل قضية استدعاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة الصحافي راندل، لا بدّ من أن نشير الى أن اتهام المسؤول الصربي بردانين بارتكاب جرائم ضدّ الانسانية صدر بعد مرور نحو ست سنوات على نشر نصّ مقابلته في «واشنطن بوست»، بينما اجرت «تايم» مقابلة مع أحد المتهمين الاربعة نحو شهر ونصف شهر بعد صدور قرار اتهامه مع ثلاثة آخرين بالضلوع في جريمة اغتيال الحريري. ولدى الادعاء العام في المحكمة الخاصة بلبنان مصلحة في استخدام نصّ المقابلة الذي تضمّن تحدّياً واضحاً للقضاء الدولي والمحلي عبر اصرار المتهم على الافلات من الملاحقة، كقرينة يستند اليها لدعم اثبات التهم الموجهة بحقه. ولا شك في أن من شأن ما ورد في المقابلة التأثير على قرارات القضاة لجهة اقناعهم بالتهم التي وجّهها بلمار الى الرجال الأربعة.
وكان المدعي العام في محكمة يوغوسلافيا قد عدّ نصّ مقابلة راندل مادة من المواد المؤيدة للقرار الاتهامي بحقّ بردانين عام 2001. ووافق راندل على تأكيد صدقية ما ورد في نصّ المقابلة خطياً، غير أنه رفض المثول أمام المحكمة، فاعترض الدفاع على تصنيف نصّ المقابلة عنصراً من العناصر المؤيدة لقرار الاتهام شرط مثول راندل شخصياً واستجوابه تحت قوس المحكمة. رفض الصحافي استدعى اصدار المدعي العام مذكرة احضار بحقّه في 29 كانون الثاني 2001. اعترض راندل على المذكرة وطعن فيها أمام غرفة الاستئناف حيث ادعى أن صفته مراسل حرب تمنحه امتيازات خاصة، ولا يجوز بالتالي اكراهه على التصريح أمام المحكمة. وقدمت 34 مؤسسة اعلامية دولية للمحكمة آراء قانونية تؤيد موقف راندل، مشيرة الى أن «الصحافيين، ومراسلي الحرب خصوصاً، يجب أن يُعفوا من الزامية الشهادة القضائية» (تقارير «اصدقاء المحكمة» AMICI CURIAE 1 آب 2002). 
رفضت دائرة الاستئناف في محكمة يوغوسلافيا اعتبار القضية متعلّقة بالصحافيين بشكل عام، بل بصلاحيات مراسلي الحروب بشكل خاص. اذ اعتبرت أن لهؤلاء امتيازات تتعلّق بمخاطر عملهم في مناطق الصراع (ما لا ينطبق على عمل مراسل «تايم» في بيروت). وأشاد القضاة بدور مراسلي الحرب في كشف الجرائم ضدّ الانسانية وجرائم الحرب، وقرّروا اعفاء راندل من الملاحقة، معلّلين قرارهم بسببين: أولاً، رغم ان بردانين لم يطلب عدم ذكر اسمه ولم يتحفظ على ما نقل عنه في نصّ المقابلة، فان اجبار الصحافي على المثول امام المحكمة لاستجوابه حول تفاصيل المقابلة قد تكون له آثار سلبية، خصوصاً لجهة الثقة التي يفترض أن يتمتع بها الصحافي لدى الاشخاص الذين يقابلهم في اطار عمله. ثانياً، بما ان الادعاء العام لا يستند الى نصّ المقابلة بسبب تضمنها دليلاً مباشراً وقيمة أساسية لاثبات جانب مركزي من القضية الجنائية، يمكن الاستعاضة عن طلب مثول الصحافي الذي أجرى المقابلة.
ورغم أن محامي «تايم» قد يثيرون السبب الاول المذكور في محاضر محكمة يوغوسلافيا لرفض مثول مراسلها في بيروت اذا استدعي فعلاً، بغضّ النظر عن كونه مراسل حرب أو لا، فإن الامر يعود الى مدى صدقية القرائن الأخرى التي تستند اليها اتهامات بلمار. فاذا تمكن فريق الادعاء من اثبات صحة دليل الاتصالات، واقناع القضاة بدقته من دون أن يتمكن الدفاع من التشكيك الجدي فيه، واذا تبين أن الشهود الذين سيستدعيهم بلمار يتمتعون بالصدقية، فلا حاجة لاستدعاء مراسل «تايم» سعياً إلى استعراض التحدي المزعوم الذي وجّهه للقضاء الدولي أمام القضاة. أما اذا وجد بلمار ومهندس تفاصيل الادعاء في مكتبه داريل موندس ورئيس المحققين في فريقه ضابط الاستخبارات البريطاني مايكل تايلور أنفسهم في مأزق بسبب دقة اعتراضات الدفاع، وتمكن المحامون من تدمير قرائن الادعاء عبر نزع صدقيتها، فقد يصار إلى اللجوء الى أساليب أخرى. علماً أن استدعاء مراسل «تايم» الى لاهاي لن يكون سهلاً، اذ ان لديها محامين يتمتعون بكفاءة عالية سيتمسكون بالمبررات المهنية لسرية المصادر الصحافية. وقد يرتكز دفاع «تايم» على الشروط التي وضعت لاجراء المقابلة المزعومة وهي، على الارجح، التزام التكتم عن التفاصيل التي يمكن ان تحدد مكان وجود المتهم.

استهداف خجول لـ«سي بي سي»

أما في قضية امتعاض بلمار (الذي شغل أيضاً منصب رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة في جريمة اغتيال الحريري قبل توليه حقيبة المدعي العام الدولي)، من الاعلامي في شبكة «سي بي سي» الكندية (راديو كندا) نيل ماكدونالد، فما زال التنبيه الذي وجّهه مساعد الامين العام للامم المتحدة للشؤون القانونية ستيفن ماتياس الى ماكدونالد، على خلفية نشره وثائق رسمية تعود الى لجنة التحقيق الدولية في تشرين الثاني 2010، مجرّد حبر على ورق. «أراسلكم لتنبيهكم بأن وثائق لجنة التحقيق الدولية المستقلة (في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري) تعود ملكيتها للامم المتحدة وبالتالي فهي غير قابلة للنشر من دون موافقة الامم المتحدة (…) ولقد نبهنا كذلك السلطات الكندية بهذا الشأن» ذكر ماتياس في نصّ رسالة وجّهها الى ماكدونالد قبل نشره التقرير الذي تضمّن الوثائق. وجاء يومها ردّ المدير التنفيذي للجنة حماية الصحافيين جويل سايمون على النحو الآتي: «هذه الرسالة تدلّ على أن الامم التحدة تسعى الى اتخاذ خطوات قانونية بحقّ ماكدونالد ونحن نرى ظلماً في ذلك»، وتابع: «اذا كانت الامم المتحدة تريد ملاحقة قضية تسريب، فعليها أن تفعل ذلك مع موظفيها، لا أن تستهدف صحافيين يقومون بعملهم عبر استخدام هذا النوع من المعلومات لاعلام الجمهور».

تراجع الامم المتحدة وانكشاف بلمار

في ما بدا تراجعاً واضحاً للامم المتحدة عن تهديداتها بحقّ ماكدونالد، لم تتخذ اي خطوات قضائية ولم تجر أية ملاحقات رغم التجاوز الفاضح لـ«الاتفاقية المتعلقة بامتيازات الامم المتحدة وحصاناتها» عبر تسريب وثائق سرية تعود ملكيتها الى لجنة أممية تأسست بناءً على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1595/2005. لكن اللافت في ذلك انكشاف اسلوب دانيال بلمار الانتقائي في تطبيق القانون. فالرجل يعرف جيداً أن مواجهته شبكة اعلامية تعدّ الاقوى في بلده الأم (كندا) ستضعه في موقع صعب. وبالتالي لن يجرؤ حالياً المدعي العام في المحكمة الخاصة بلبنان على ملاحقة المحقق الكندي الذي سرّب مستندات التحقيق السرّية الى ماكدونالد، اذ ان ذلك سيشكل فضيحة في الاعلام الكندي ستعرّض بلمار لانتقادات من مصلحته تجنّبها. ورغم عرض العضلات الذي قدّمه المتحدّث الرسمي باسم المحكمة مارتن يوسف لـ«الأخبار» من خلال تأكيده ان في امكان المحكمة استدعاء صحافيين للمثول أمامها كشهود، فهو يعلم على الارجح، كما يعلم المسؤولون الآخرون في المحكمة، أن المسّ بالحرية الاعلامية مقابل التغاضي عن محاسبة المحققين في مكتب بلمار الذين انتهكوا سرية التحقيق، قد تكون لها آثار سلبية على صدقية بلمار والمحكمة في الاعلام وعلى المستقبل المهني للصحافي مارتن يوسف وزميلته المتحدثة باسم مكتب المدعي العام سوفي دولاكومب. 

السابق
دولتان لشعبين أم لشعب واحد؟
التالي
ميركل جهدت لعرقلة مسعى فلسطين بالأمم المتحدة لصالح إسرائيل