ثورة الغالبية

في البدء، اي نقاش الان حول الاقليات هو افتئات على الثورة العربية الراهنة وسوء فهم لحركة الاصلاح والتغيير التي يقودها الجيل العربي الشاب من دون ايديولوجيا سياسية او دينية ومن دون تنظيم داخلي او توجيه خارجي طبعا. ولذلك يصبح اي تعبير عن الخوف على المصير مجرد استعادة لهواجس الماضي،تدفع بطريقة تلقائية الى التشكيك ليس فقط في ثقافة تلك الاقليات المبنية على مفهوم الحرية للفرد والجماعة، بل في نواياها التي تتخطى فكرة تحذير الانظمة البديلة للطغيان من المس بحقوقها السياسية والاجتماعية التي اكتسبتها من طغاة احتاجوا في وقت من الاوقات الى توسيع دائرة شرعيتهم المتهالكة.

والوجه الاخر لمثل هذا النقاش هو الاعتقاد ان تلك الثورة العربية قامت بها الغالبية الاسلامية السنية، لكي تستعيد خلافة او ولاية او سلطة افرغتها المؤسسات الاستبدادية الحاكمة من مضمونها، ووضعتها في حالة صراع مع تيار اسلامي ناهض يتقاسم ادوار التطرف والاعتدال، لكنه يضمر فكرة واحدة لا مكان فيها الا لاهل الذمة. هي بهذا المعنى ثورة اسلامية سنية ستؤدي الى حكم اسلامي في تونس ومصر واليمن وسوريا، وستسهم في انهاء تجارب الدولة العلمانية القومية، وستخدم ايضا في صد النفوذ الايراني الشيعي وفي استعادة العراق لاحقا الى حضن السنية السياسية.

هذا التوصيف للثورة العربية هو مثل التفسير السوريالي للتاريخ، وهو يشبه الكلام المتداول على لسان بعض «السلفيين القوميين» الكارهين للجيل العربي الشاب والمتوجسين منه، عن ان المنطقة العربية هي الان امام سايكس بيكو جديد يهدف الى اعادة رسم خريطة الامة، ودليلهم الاول هو العراق، مع انه لم يشهد ثورة شعبية بل احتلال اميركي انتج فتنة مذهبية سميت جزافا مقاومة وحصدت من العراقيين اضعاف اضعاف ما حصدت من المحتلين الاميركيين، ودليلهم الثاني هو ليبيا التي عادت الى كنف الاستعمار الاوروبي، وسوريا التي تخضع الان لاختبار التفتيت على اساس طائفي ومذهبي!

هي ثورة شعبية لكن من دون شعارات الغالبية، السياسية والدينية. حتى العروبة التي تشكل رابطا قديما بين التونسي والمصري والسوري واليمني، ليس لها حضور في الوعي الشعبي، الا في حالات فولكولورية نادرة. وقد كانت تجربة فلسطين وطلبها الحصول على عضوية كاملة في الامم المتحدة، فاضحة للمحتوى القومي للثورة التي لم تهب انتصارا للشعب الفلسطيني ولم تخصص يوما لنصرة طلبه المتواضع. اما الاسلام السياسي السني فان مشاركته المتأخرة في تلك الثورة حققت له بعض الاختراقات والمكتسبات الطبيعية، لكنها لا تزال غير قادرة على وقف المد الشعبي المنادي بالدولة المدنية والديموقراطية، والاهم من ذلك بالدولة التعددية التي تحمي اقلياتها، اكثر مما فعلت دولة زين العابدين بن علي (وتجربة الثورة التونسية مع يهود تونس بالغة الاهمية)، واكثر مما فعلت دولة حسني مبارك مع الاقباط الذين تراجعت الاعتداءات عليهم هذا العام الى اقل من نصف معدلها السنوي، واكثر بكثير مما فعلت سلطة الاحتلال الاميركي في العراق التي شجعت استهداف المسيحيين العراقيين.

هي ثورة، ليست ردة الى القرون الوسطى، ولا حتى الى القرون العثمانية، وسيرتها المثيرة للجدل مع الاقليات.

السابق
قبلان: لتفعيل مؤسسات الدولة وإداراتها وأجهزة الرقابة
التالي
جنبلاط ل”لأنباء”: التغيير العربي مستمر ولو طال الزمن