الصحوة: مدنية لا اسلامية

كما كان مؤتمر الصحوة الاسلامية، الذي عقد في طهران منتصف الشهر المنصرم، قاصرا عن مقاربة الثورات العربية وربيعها، بدا مؤتمر الانتفاضة الفلسطينية الذي انعقد في طهران منذ يومين محاولة التفاف ضعيفة على هذه الثورات عبر ذهنية انتقائية، غايتها انعاش خطاب الممانعة المتآلف مع الاستبداد… وهذا ما تجلى في المشاركة الرسمية السورية بالمؤتمر وتغييب المعارضة في محاولة استنقاذ الممانعة والنظام السوري بمقولة "فلسطين من البحر الى النهر".
ففي مؤتمر الصحوة الاسلامية برز اصرار ايراني عبّر عنه مرشد الثورة السيد علي خامنئي بأن ما يجري في العالم العربي هو صحوة اسلامية، صحوة تنتسب الى ارث الثورة الاسلامية في ايران. إذ لم يشر الزعيم الايراني الى ان مقولة قيام الجمهوريات الاسلامية كانت غائبة عن شعارات الثوار العرب من تونس الى القاهرة مرورا بالمنامة وطرابلس وصولا الى دمشق وسواها.

في المقابل تقدمت مقولة الدولة المدنية التي تبناها المفكرالراحل محمد مهدي شمس الدين قبل اكثر من 15 عاما، وهي السعي الى دولة الانسان التي كان المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله قد بدأ يعيد النظر بها وبمقولة الدولة الدينية، وهو ما كان له اثر واضح على ادبيات حزب الدعوة في تجربته العراقية كون الراحل احد ابرز منظريه. اما التجربة الاسلامية الايرانية المتمثلة بنموذج ولاية الفقيه فيدرك القائمون عليها انها لم تكن يوما جاذبة او لم تعد جاذبة لأي من الحركات الاسلامية فضلا عن الشعوب، ولم يغامر اي من حلفاء ايران بالدعوة إلى تبنيها في اوساط عربية واسلامية اسوة بالدولة المدنية او النظام الديمقراطي. وحال ولاية الفقيه كحال الخلافة الاسلامية التي يدأب حزب التحرير على الترويج لها منذ عقود.
وتراجع مقولة الدولة الدينبة هو تعبير صريح عن انكفاء تجربة الاسلام السياسي ومقولة الدولة الدينية عربيا واسلاميا، وتجاوز لادبيات ما سمي الصحوة الاسلامية. فالاصوليات الاسلامية عموما بالغت وتعسفت في نقل المشروعية من الدين الى الممارسة السياسية، من خلال تحويل المتغير والمتعدد – اي السياسة – الى ثابت – اي الدين. لذلك وجدت الشعوب العربية ان الاسلام الايديولوجي في ممارسته قادر على التلاعب وتبرير الشيىء ونقيضه.
 
فاذا كان الظلم قيمة سيئة تحاربها القيم الدينية ولا تضفي عليها اي شرعية ومنها الاسلام، يستطيع الاسلام الايديولوجي تسويغ الظلم وتبريره واضفاء القداسة على هذا الفعل في الممارسة السياسية اذا اقتضت مصالحه في ظرف معين ذلك. من هنا يستحيل في المفهوم الديني وفي عالمنا وجود سلطة سياسية دينية. ثمة سلطة سياسية تستخدم الدين لمصالحها السياسية المشروعة وغير المشروعة او في تعبير اقل حدة: لها رؤيتها الدينية غير الملزمة، وهي رؤية يقيدها الزمان والمكان، ولا ترتقي ابدا الى قداسة القيم الدينية وثباتها على امتداد التاريخ.
في هذا المعنى فإنّ الربيع العربي، في جوهر ما يحمله من تغيير، تكمن فكرته الأساسية في نزع القداسة عن السلطة باعتبارها شأن الناس ومجال عملهم وابداعهم من دون انكار الدين وقيمه او التنصل منه. لذا فالدعوة الى الدولة المدنية هو موقف واع وعميق ونتيجة اختبار مستمر وقاس خلص الى رفض الاحادية في السلطة، فكيف اذا كانت دينية، والانحياز نحو التعدد والتنوع والانجاز الانساني العظيم الذي مثلته الديمقراطية ومؤسساتها، الاقدر حتى الآن على حماية هذا التنوع وتنميته.
وكما ان الشعوب العربية تتخلص من رهاب وسطوة مقولة "الاسلام هو الحل"، فهي ايضا تتخلص، بثقة في النفس، من مصادرة العقل التي مثلها خطاب الممانعة وادواتها، فقد ساهم الأخير، من خلال سلوكه، في تقديس البندقية على حساب العقل، وتجيير هذه البندقية لصالح تأبيد بعض الانظمة المستبدة وخدمة سياسات لا علاقة لها بفلسطين وشعبها.

من هنا يأتي دعم الانتفاضة في فلسطين ليس سياق تجسيرالانقسام الفلسطيني بل تعميقه وجعل هذه القضية، التي تسكن في وجدان كل عربي، وسيلة للاقتصاص من الشعوب العربية. تلك الشعوب التي تدرك، في ربيع ثوراتها، ان المقاومة قبل ان تكون بندقية، هي ارادة حرة وثقافة تنحو نحو تقديس الحرية، وهي التزام بمواجهة الاستبداد السياسي ومبرراته في الثقافة الدينية او الاجتماعية. المقاومة قبل كل شيء هي فعل تقديم نموذج لما نسعى الى تحقيقه في فلسطين… اما أن تستطيع المقاومة تبرير الاستبداد وتنزيهه عن السبب الجوهري لهزائمنا، فهذا يعني أنّها، في لحظة ما، قابلة لتأبيد اسرائيل وحمايتها، وإن رفعت شعار فلسطين من النهر الى البحر…
ربما يمكننا اليوم الحديث عن "الصحوة المدنية" التي قد تستعيد فلسطين بطرق غير التي استنزفتنا ولم تحرّر شبرا واحدا منها.  

السابق
هل يدفع علوش ثمن ولاية الفقيه؟
التالي
حزب الله لـ14 آذار: لبنان لم يعد ساحة مناسبة لتحقيق أي مكاسب أميركية وإسرائيلية