صدفة يمنية

 قتلت القوات الاميركية مواطنا اميركيا في اليمن. لن يكون من المبالغة كثيرا القول ان الاميركي اليمني الاصل انور العولقي سقط بنيران صديقة، على الرغم من العداء المستحكم الذي طرأ بين الجانبين طوال السنوات الخمس الماضية، ودفعه الى مخاطبة الاميركيين في واحدة من رسائله المسجلة في البر اليمني: «إما نحن وإما انتم»، من دون ان يوضح يومها من هم الـ«نحن»، هل هم اليمنيون ام العرب ام المسلمون بشكل عام.
اغتيال العولقي يتخطى برمزيته وأثره تصفية الزعيم السابق لتنظيم القاعدة اسامة بن لادن في مطلع ايار الماضي، او قتل قادة آخرين من التنظيم في افغانستان او العراق او سواهما. ثمة رجل يحمل الجنسية الاميركية وجواز السفر، ولد في اميركا ودرس في مدارسها وتخرج من جامعاتها فأتقن لغتها واندمج في ثقافتها، قبل ان يقرر الانقلاب عليها والانخراط في الجهاد ضدها.. والترشح لقيادة القاعدة وجميع الشبكات والخلايا التي تتبعها، ثم التخلي عن هذ الترشح لمصلحة رفيق بن لادن الدكتور ايمن الظواهري.
لم يسبق لسواه من القادة الراحلين ان ولد او تربى في الولايات المتحدة. بعضهم لم يكن قد دخل الاراضي الاميركية. لكنهم كلهم، بمن فيهم الاحياء طبعا، كانوا في يوم ما يعتبرون اميركا مصدر الالهام والتوجيه والتمويل والتسليح، قبل ان يتم الافتراق في مطلع التسعينيات في افغانستان ثم في العراق واخيرا الى اليمن، الذي تتجمع فيه اليوم فلول قيادات التنظيم وتنتظر غارة جوية اميركية لتنهي حياتهم ومعركتهم.. ولتقفل ذلك الملف الاميركي الذي يشكل علامة فارقة من علامات العقدين الماضيين، وما شهده من حروب وصراعات وازمات، تقترب من خواتيمها.
تكاد تصفية العولقي تبدو كأنها حدث امني اميركي داخلي، صار اليمن بالصدفة مسرحا له، لان الرجل اختار الفرار من وجه العدالة الى مسقط رأسه. لكنها في الجوهر ضربة قاسية لتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، تزيل تهديدا امنيا جديا كان موجها الى مختلف دول الخليج العربي انطلاقا من القاعدة اليمنية التي كان يبنيها العولقي في محافظات اليمن الخارجة عن سلطة الدولة، ويعد لتوسيع عملياتها خارج الحدود اليمنية المباشرة، بعدما سدت في وجهه ابواب اختراق الامن الاميركي اثر محاولات عديدة اهمها الطرود المتفجرة قبل عامين.
هي خاتمة لعمليات ثأرية متبادلة بين اميركا وبين احد ابنائها الذين غررت بهم يوما ثم تخلت عنهم فانقلبوا عليها وصاروا التهديد الابرز لامنها. غير ان المسرح اليمني للعملية يختلف تماما عن المسرحين الافغاني والعراقي. فقد كان العولقي ـ وتنظيمه القوي الواسع الانتشار بين القبائل اليمنية ـ مستفيدا من انهيار الدولة المركزية الضعيفة اصلا في اليمن ومتواطئا مع بعض بقاياها ومكوناتها. تردد على الدوام انه كان دائم التقلب بين السلطة والمعارضة، يتلقى العروض من الجانبين ويستخدمها لمصلحة جهاده الاكبر.. حتى صار في الآونة الاخيرة ذريعة لمنع وصول الربيع اليمني الى خاتمته السعيدة المرجوة بإطاحة الرئيس علي عبد الله صالح وضباط جيشه من الحكم.
لم تقتل اميركا العولقي من اجل ربيع اليمن، لكن الصدفة هي خير من الف ميعاد.
 

السابق
“سلّة” من المستجدات ترخي بظلالها على ألق الإنتفاضات
التالي
مَخرج للتمويل بمرسوم يوقّعه وزير العدل بالوكالة؟