نظام إقليمي جديد يتشكَّل

شهدت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال الأسبوعين الماضيين حدثاً تاريخياً استحوذ على اهتمام الديبلوماسيين وأضواء الإعلام، وهو حدث مخاطبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأسرة الدولية مطالباً بعضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة في وقفة عزّ غيّرت موازين عديدة، إقليمياً ودولياً. إنما الحدث الفلسطيني لم يكن وحده ما شغل الرؤساء والوزراء بل إن الاجتماعات الثنائية عكست اهتماماً بالغاً بما يحدث من ولادة لنظام إقليمي جديد في منطقة الشرق الأوسط نتيجة اليقظة العربية وثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، وكذلك أحداث البحرين.

تركيا وإيران أساسيتان في مصير النظام الإقليمي الجديد لكن الدول العربية ليست غائبة عنه، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي. لبنان مهم في عملية التشكّل هذه بقدر تأثره ببقاء النظام السوري أو انهياره وما يترتب على الانهيار من تأثير على حليف دمشق الرئيسي، الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ستقرر بدورها مصير لبنان عبر علاقاتها العضوية مع «حزب الله» هناك.

وإذا كانت فلسطين النجم الساطع في الأمم المتحدة هذه الأيام فإن ملف سورية عائد إلى مجلس الأمن هذا الأسبوع ليكشف جديداً في علاقات الدول الكبرى والدول الإقليمية الكبيرة في الشرق الأوسط. وللجديد الآتي دلالات مهمة خصوصاً أن سورية هي الجزء الحيوي، أو مسمار العجلة، للنظام الإقليمي الجديد في المنطقة.

في البدء، بعض اللقطات اللافتة يوم خاطب محمود عباس الجمعية العامة، في 23 أيلول (سبتمبر). يومها كان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في مكان شبه سري، أُعلِن عنه في الساعة الأخيرة، يتوقع تدفق الصحافة المدعوّة إلى مؤتمره الصحافي السنوي. واضطر أحمدي نجاد لتأجيل الموعد لأن الإعلام الدولي لم يكن منشغلاً به بل بالرئيس الفلسطيني. فأحمدي نجاد كان نجم دورات سابقة للجمعية العامة، واستمتع بالأضواء، لكن نجمه في الدورة الـ 66 انحسر جدياً مما عكس أمرين: انحسار نفوذ إيران ودورها الإقليمي والدولي، وانحسار التركيز الدولي على ملف إيران النووي.

في ذلك اليوم، وقعت حادثة مؤسفة في قاعة الجمعية العامة أثناء إلقاء محمود عباس خطابه التاريخي كادت تنتهي بسابقة إطلاق النار داخل القاعة، فلقد أسرع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من لقاء ثنائي له في الطابق الرابع من مبنى الجمعية العامة إلى قاعة الجمعية العامة يرافقه كالعادة عدد ضخم من الحرس الخاص، وذلك للاستماع إلى الرئيس الفلسطيني الذي كان بدأ إلقاء خطابه. وكان أن اعترض حرس الأمم المتحدة طريق أردوغان وحرسه لينصحوه بالتوجه إلى الطابق الثاني لأنه لا يوجد ممر أو مدخل من الطابق الرابع إلى الطابق الأول، حيث يجلس رؤساء الوفود في القاعة. وظن حرس أردوغان أن حرس الأمم المتحدة يمنعون رئيس حكومة تركيا من دخول القاعة، فاعترضوا بقوة العضلات، وبدأ الصراخ والتدافع ما أدّى بالبعض إلى الاعتقاد أن معارضين لفلسطين يشوشون على الرئيس الفلسطيني من الطابق الرابع، طابق الضيوف وليس طابق الوفود الرسمية. وأسفرت العنجهية التركية عن إدخال ثلاثة من حراس الأمم المتحدة المستشفى، ومن بينهم امرأة. وشاء الأمين العام بان كي مون تفادي أزمة ديبلوماسية فسارع إلى الاعتذار قبل التعرّف إلى حقيقة ما حصل، الأمر الذي أثار التحفظات والانتقادات خصوصاً انه تصرّف قبل التحقيق في الواقعة.

وما ركز الأضواء على الوفد التركي في هذه الدورة أيضاً طلب وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو من الأمين العام اعتماد التركية لغة رسمية من لغات الأمم المتحدة، علماً أن العربية لغة رسمية إلى جانب الإنكليزية والفرنسية والروسية والصينية. خلاصة الأمر، أن ما حدث في قاعة الجمعية العامة ساعة إلقاء الرئيس الفلسطيني خطابه التاريخي كاد يُفسد يوم فلسطين لو انطلقت رصاصة.

قبل الخوض في أدوار تركيا ونجومية رئيس وزرائها في الدورة للـ 66، عودة إلى ما حدث يوم 23 أيلول خارج الأمم المتحدة حين أتت مفاجأة مغادرة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح المملكة العربية السعودية حيث كان يتلقى العلاج عائداً فجأة إلى اليمن.

الاعتقاد السائد بين مختلف القطاعات الرسمية الإقليمية والدولية كان أن صالح موجود في شبه إقامة جبرية في السعودية تفادياً لما قد تسفر عودته إلى اليمن من إراقة دماء. وأيضاً، كوسيلة لإرغامه على تنفيذ «المبادرة الخليجية» التي تقضي بتنحيه عن السلطة وتولي نائبه عبد الرب منصور الهادي إدارة المرحلة الانتقالية والإشراف على الانتخابات.

رواية أحد كبار أركان النظام من السلك الديبلوماسي هي أن علي عبدالله صالح عاد ليحاول لجم ولديه عن مضايقة نائبه. نجله أحمد، وهو قائد الحرس الجمهوري، نجح في إقصاء الهادي عن القصر الرئاسي وأجبره على العمل من منزله لكي يوضح لكل من يعنيه الأمر مَن يسيطر فعلاًَ على البلاد. والرواية هي أن علي عبدالله صالح عاد ليوقف نجليه عن مضايقة نائب الرئيس، قبل أن يعود إلى المملكة لاستكمال العلاج.
 
هناك ثقوب عدة في هذه الرواية، إنما هذا ليس الأهم بل الأهم هو العنصر السعودي في عودة صالح إلى اليمن. يقال إن قيم الضيافة جعلت مغادرة صالح قراراً بيده لكن واقع الأمر أن هناك عوامل سياسية وعملية ساهمت في قرار السماح بالعودة، ومن أبرزها: أولاً، ازدياد المخاوف من «القاعدة» في اليمن والاعتقاد أن عودة صالح تلجم «القاعدة» عسكرياً. ثانياً، الخوف من ضعف نائب الرئيس وعدم تمكنه من ضبط الأمور في هذه المرحلة الدقيقة بما قد يؤدي إلى فوضى مخيفة. ثالثاً، تبعثر المعارضة والمخاوف من إفرازات ذلك التبعثر. كل هذا لا ينفي احتمال صحة الرواية ما يعني تحقيق الرئيس اليمني إنجازاً مهماً بلجم أبنيه ثم العودة إلى العلاج في المملكة ثم تنفيذ «المبادرة الخليجية». إنما اليوم، ما يبدو الأكثر قابلية للتصديق هو استمرار مراوغة صالح وانحسار الضغوط عليه ببقائه في اليمن. والسؤال هو: هل الإدارة الأميركية وافقت مسبقاً على القرار السعودي بمغادرة صالح وللأسباب نفسها، أم أن واشنطن فوجئت حقاً؟

في الملف الليبي، أتت الساعة الصعبة ما بعد ضجيج الاحتفال بانتصار المعارضة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) على نظام معمر القذافي. إنها ساعة الامتحان. فالتجربة الليبية لن تكتمل بنجاح ما لم توضع آليات مراقبة ومحاسبة تضمن عدم العودة إلى الفساد خصوصاً في المناقصات النفطية وإعادة البناء. ثم هناك عنصر التدخل الخارجي – بما فيه العربي – لصياغة نوعية الحكم في ليبيا الجديدة. البعض يريده إسلامياً والبعض الآخر يريده علمانياً. إنما هناك تذمر من «ثقل أيادي» بعض الدول الخليجية التي ساعدت وساهمت في التخلص من حكم القذافي بصورة أكبر وأعمق وأبرز. قطر تنفي أنها تتدخل بهذا المقدار، لكن عليها أن تعي أن هناك تذمراً من «ثقل يديها: في إدارة ليبيا.

في الملف الفلسطيني، تعمل دول خليجية مهمة على مساعدة فلسطين في تجنب الإحراج إذا ثبت حقاً أنها لن تحصل على الأصوات التسعة اللازمة لتبني مجلس الأمن قرار العضوية الكاملة في الأمم المتحدة التي طلبها الرئيس الفلسطيني. وهو عندما طلبها، كان الواضح في المعادلة أن الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض (الفيتو) لمنع مجلس الأمن من تبني القرار. إنما اليوم، يزداد الاعتقاد أن هذا الطلب لن يحصل على الأصوات التسعة اللازمة ما سيعفي الولايات المتحدة من استخدام الفيتو. وهذا، في رأي دول عدة في مجلس التعاون الخليجي، سيشكل إهانة لفلسطين وانتكاسة لها.

وبالتالي يجري العمل نحو إقناع الرئيس الفلسطيني بالموافقة على تأجيل طرح مشروع قرار ينص على عضوية فلسطين في مجلس الأمن ريثما تصوّت الجمعية العامة على قرار مضمون يعطي فلسطيني مرتبة «الدولة المراقبة غير العضو» في الأمم المتحدة.

وتجدر الإشارة إلى أن محمود عباس لا يحصر كامل استراتيجيته في العضوية أو مرتبة «الدولة المراقبة» لفلسطين في الأمم المتحدة. بل إن أفقه السياسي أوسع بكثير وهو قد وضع الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية وروسيا والأمم المتحدة في خانة الاستحقاقات.

أما الملف السوري، فاستحوذ على مقدار كبير من التحرك الخليجي في اللقاءات الثنائية والجماعية على هامش الجمعية العامة في الأمم المتحدة، ومن ضمنها الاجتماع الذي ضم وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ووزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

والأخير ديبلوماسي محترف صعب وعنيف في آرائه ومواقفه. وفي أبرز احتجاجاته على التعامل مع الملف السوري أن الدول الأوروبية لم تأخذ برأيه ولم تحطْه علماً بالعقوبات الثنائية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على سورية. كما انه يريد لمجلس الأمن أن يساوي ما بين الحكومة والمعارضة في المسؤولية عن العنف.

تركيا من جهتها تصعّد عملياً،على أرض الواقع، والكلام يتصاعد عن إجراءات ملموسة لجهة دعم المعارضة عبر الحدود التركية – السورية بسلاح وعتاد. والقيادة التركية على مستوى أردوغان حذّرت إيران من مغبة استمرار دعمها السلطات السورية وقمعها المتظاهرين.

النظام الإقليمي الجديد يتشكّل على صعد عدة وفي محطات متفرقة. قد يستغرق الأمر ستة أشهر أو سنة، إنما لا عودة إلى ما كان عليه النظام الإقليمي القديم في منطقة الشرق الأوسط . 

السابق
المعلوم والمخفي في قمة دار الفتوى
التالي
الجمهورية: سليمان سمع من نجاد تحفّظا عن الأسد