أحلام الطلاب تصطدم بانعدام التوجيه

بدأت دراسة الحقوق لأن أهلي كانوا يريدون رؤيتي بالثوب الأسود أرافع أمام القضاة وأدافع عن الفقراء كما يقولون، واكسب الكثير من المال الذي، الى موقعي المحترم كمحامٍ، يساعدني في عيش رغيد. دخلت الكلية، بدأت الحصص الاولى، كان الامر ممتعاً، بدأت فعلاً أشعر بالحرية… وايضاً بالرجولة، فالى كثرة الجميلات من حولي، باشرنا إعداد العدة للانتخابات الطالبية. رسبت في الفصل الاول إذ لم أكن ركزت على دروسي، فكرت ملياً في ما أفعل، عليّ ان أعيد درس المواد لأتقدم من الامتحانات في نهاية السنة. بدأت الدرس الفعلي، اكتشفت ان المواد كريهة، ورائحة الكتب كريهة، وصرت أرى كابوساً ليلياً أنا بطله، ألبس الثوب الاسود وأدخل المحكمة، لا للدفاع عن الفقراء، بل عن المجرمين.
أفقت في إحدى الليالي مذعوراً "لا، إن موكلي هذا ليس بريئاً، بل هو مجرم، ويستحق الاعدام سيدي القاضي". أفقت، فكرت ملياً في مصروفي الشهري، وما إذا كان والدي سيمنعه عني في حال أبلغته قراري التوقف عن دراسة الحقوق. بلى، سأذهب الى مكان آخر واختصاص آخر.
لم يدرك ربيع ان نيله شهادة الثانوية العامة لن يكون مقدمة للجلوس على مقاعد الجامعة، بل لن يعدو كونه انهاء لمرحلة دراسية دون الدخول في اخرى، فالدوامة التي يدخل فيها معظم الطلاب من امثاله اثناء بحثهم عما يناسبهم من الاختصاصات تجعلهم مترددين، غير مدركين لمساوىء مرور الوقت دون تمكنهم من اختيار المناسب من الاختصاصات.
قلة التوجيه التي يعانيها هؤلاء في منازلهم ومدارسهم هي السبب الاول وراء عدم اكمال بعضهم لدراسته ودخول بعضهم الآخر في مجالات لا تتلاءم وميوله الدراسية، فللاختيار العشوائي للتخصص الجامعي الدور الاساسي في فشل دراسة الطالب، وفي ازدياد نسبة البطالة، لا تتركز الاختصاصات في مجالات معينة يشكل اختيارها نوعاً من الموضة، فيتدفق اليها الطلاب وهم لا يعلمون شيئاً عن مستقبلها المهني.

في الآونة الاخيرة، اخذت بعض الجامعات الخاصة على عاتقها مهمة ارشاد الطلاب اذ بدأت تجول على المدارس لنصحهم بما يناسبهم من اختصاصات، كما يقوم متخصصون تستعين بهم تلك الجامعات بشرح حاجات سوق العمل وطبيعة كل اختصاص ومجال العمل فيه. غير ان محاولات الارشاد هذه ما زالت محدودة ولم تستطع حلّ المشكلة بشكل كامل.
"نهار الشباب" استطلع آراء عدد من الشباب الذين عانوا او يعانون هذه المشكلة لمعرفة حقيقة اسبابها ونتائجها، كما استطلع رأي احدى الجمعيات المتخصصة بتوجيه الطلاب الى ما يناسبهم.
مثل هذا الوضع يشبه الى حدّ كبير البناء المقام على اسس غير متينة وعشوائية والذي يفتقد اي فرصة للنجاح، فاختيارنا لفرع البكالوريا في قسميها الاول والثاني ليس مبنياً على اقتناعاتنا ورغباتنا الذاتية، بل هو في الغالب خيار المدرسة والاهل، وتختلط في ذلك مفاهيم خاطئة تصنف كفاية الطالب بحسب فرع اختصاصه، كما قال اسعد وهبي "الفروع العلمية اكثر بريقا من الفروع الادبية، فبعض ذوي الميول الادبية تفرض عليهم العائلة والمدرسة احيانا الاتجاه العلمي بحجه افضليته في سوق العمل، والتزامه موقف المجتمع".
المشكلة تبدأ من هنا كما يراها وهبي: "بعد انهائنا مرحلة الدراسة الثانوية نجد انفسنا امام حيرة كبيرة، فالفرع الذي تخرجنا منه لا يتيح لنا التخصص في الاختصاصات التي نرغب فيها بل يحصر هذه الاختصاصات بعدد محدود يجبرنا والكثير من زملائنا على القبول بها مكرهين، غير متحمسين، الامر الذي يؤثر سلبا على مستوانا العلمي اثناء دراستنا الجامعية وما يستتبع ذلك من عرقلة دخولنا إلى سوق العمل".

ويحمّل مروان حمدان مسؤولية الارباك الذي يصيب الطلاب بعد المرحلة الثانوية الى من يهمل وظيفة توجيه الشباب: "تلامذة المرحلة الثانوية هم اكثر من يحتاج الى التوجيه والارشاد، لكن ما يحدث هو العكس تماما اذ يغيب التوجيه من المدارس والجامعات وحتى وزارة التربية، ويُترك الطالب وحيداً في عملية اختيار تخصصه المفترض، وباعتبار ان هذا الاختيار لا يرتكز على متطلبات سوق العمل ولا على الطبيعة التي يقوم عليها الاختصاص".
ان ما يسمى توجيهاً تقوم به الجامعات في جولاتها على تلامذة صفوف البكالوريا هو في رأي حمدان "بعيد من التوجيه العلمي لانه توجيه تجاري مصلحي يوجه الطلاب الى الاختصاصات التي تريد هذه الجامعة او تلك زيادة عدد الطلاب فيها، دون الاكتراث الى حاجة سوق العمل الذي سيصطدم الشباب بواقعه بعد تخرجهم وانخراطهم في اتحاد العاطلين عن العمل".

اما المشكلة الاساسية التي تواجه الطلاب وتضعهم في موقف لا يخلو من الارباك، فهي برأي سارة صبرا "انحسار رقعة الاختصاصات المتاحة، ذلك ان الكليات التي يحتاج الدخول اليها لامتحان تحتكر القوى السياسية انجاح الطلاب فيها وبالتالي فان من لا يتمتع بدعم سياسي يتخلى عن فكرة الدخول الى هذه الكليات ويركز على تلك التي لا تحتاج الى امتحان دخول وهي قليلة ومحصورة، وهذا يتعلق بالطبع بالجامعة اللبنانية".

نشاطات متخصصة
وبسبب خطورة انعدام التوجيه عمدت بعض الجمعيات المتخصصة في هذا المجال، الى "اقامة نشاطات ارشادية للمساهمة في حلّ هذه المشكلة"، كما يقول هشام شحرور المسؤول في المركز الاسلامي للتوجيه والتعليم العالي: "نحن نعتمد على فلسفة واضحة في مجال التوجيه والإرشاد تلزمنا الحيادية. ذلك أن دور الجمعية ينحصر في تدريب الطالب على اتخاذ القرار وليس أخذ القرار نيابة عنه، وهنا يخطئ معظم الموجهين"، مضيفاً: "نحن نعتمد على الإرشاد غير المباشر، أي نسعى الى جعل تفكير الطالب معيارياً بمعنى الإحتكام إلى المعايير العقلية والعلمية، ونساعده على كتشاف نفسه وميوله وقدراته. ذلك ان معظم الميول والقدرات كامنة. وحتى نرصد هذه الميول المهنية والقدرات الذكائية نعتمد على اختبار هولند الذي يحدد نوع الشخصية المهنية للطالب، ويحتوي على نحو 150 سؤالاً، وبموجب اجاباته تحدد، عبر مشرف خاص، ميول الطالب".
اما الاختبار الثاني فيعتمد بحسب شحرور على "نظرية غارندر للذكاءات المتعددة التي ترى أنه لا يوجد ذكاء في المطلق ولا غباوة في المطلق، كما تفيد بوجود أنواع متعددة من الذكاءات، فكل شخص يتمتع بنوع معين من الذكاء (روحي، رياضي، منطقي…)، فاذا كانت قدرات التلميذ لا تساعده على التخصص في المجال الذي يميل اليه، نسعى الى توجيهه نحو المجال المناسب".
كما يصدر المركز سنويا دليلا للجامعات المحلية وبعض الجامعات الخارجية "لتعريف الطلاب بالاختصاصات الموجودة في معظم الجامعات اللبنانية".
وفي ما يخص سوق العمل يؤكد شحرور ان "في لبنان لا دراسات خاصة بسوق العمل، إذ إن اللبنانيين لا يتفاعلون كثيراً مع مثل هذه الدراسات نظراً الى الحساسيات المناطقية والطائفية، لذلك نسعى الى جمع ما يسمى مؤشرات السوق فنراقب حركتها، كما نستطلع آراء رجال الأعمال لكي نكوّن صورة أولية عن سوق العمل. ومن خلال هذه العملية نجد اختصاصات فيها نقص، وأخرى متخمة، فمثلاً مهنة التمريض مطلوبة بكثرة، كذلك بالنسبة الى مديري المشاريع وخصوصاً ان الجامعات اللبنانية لا تدرّس مثل هذا الاختصاص".
 

السابق
افتتاح مستشفى تبنين الحكومي
التالي
جنبلاط: لست بوارد الخضوع لامتحانات فصلية وفحوصات دم