المثقّف والجماهير

في أمكنة كثيرة، يبدو المثقفون في مواقع ثورية تسبق بأشواط مواقع شباب الشوارع والساحات والميادين. الجذرية التي تسيطر على مواقف هؤلاء من الأنظمة في الدول التي تشهد أنواعاً من الحراك الشعبي، تجعل المرء يعتقد، لوهلة، بأن مفتاح الحقيقة المطلقة في أيديهم، وهو الأمر الذي يزداد التباساً يوماً بعد يوم.

في لحظتنا الراهنة، اكتُشِف المثقفون، أو من ينسبون إلى أنفسهم هذه الصفة من دون الاضطرار إلى أخذ شهادة من أحد. لطالما اعتبر هؤلاء الجماهير مسكينةً وجاهلةً وعديمة الفهم للمعايير ـــــ معاييرهم هم ـــــ الأخلاقية. فجأة باتوا، اليوم، يريدون النطق باسم هذه الجماهير نفسها. صاروا، في لحظة الثورة المباغتة، في موقع المضطر إلى القيام بأي أمر يظهرهم شركاء فيها، ويحتاجون إلى وسيلة تواصل لا تلزمهم دفع الثمن المفروض. لذا لا بأس لهذا الصنف من المثقفين ـــــ وهم في أحسن الأحوال كتبة أو متفكرون ـــــ بأن يضعوا التصورات والمفاهيم، وأن يقرروا جدول الأعمال، وأن يمنحوا هذا أو ذاك شرف الانتماء إلى فصيلتهم. هم، وحدهم، يعرفون ما يجري على الأرض. وهم، وحدهم، من يجيد قراءة التاريخ. يفترضون أن ما يقررونه حقيقة سيكون هو الحقيقة، وعلى الآخرين الأخذ به. ومن لم يفعل، يتحول فوراً إلى متخلف عن ركب الحضارة، أو متعنّت يرفض سماع صوت العجلات تتحرك.

يفترض هؤلاء أن ما يعتقدونه صحيحاً هو الصح. يرفضون، مثلاً، أي تسوية مع الحاكم ويزعمون أن الشارع لا يريد التسوية، وأنهم برفضهم إنما يجارون هذا الشارع وتطلّعاته. أما إذا حدث وخرج منهم من دعا إلى واقعية، في هذا المكان أو تلك الساحة، كُفّر واتُّهِمَ بخيانة الجماهير والقضية والتضحيات، وعُدّ من صنف الانتهازيين الذين يسعون إلى بيع الثورات بمقاعد سلطوية أو مكاسب. ويكون الرد، من عندهم، بالدعوة إلى التصعيد، وإلى عدم الركون إلى أي صوت يدعو إلى تسوية، من دون أن يأبهوا لما إذا كان لموقفهم هذا نتائج من النوع الذي يؤدي إلى سقوط قتلى أو ضحايا جدد. 
لنأخذ، مثلاً، حالتي ليبيا وسوريا.
قرّر المثقفون هؤلاء، أو هكذا قُدّم إلينا المشهد، أن التدخل الخارجي صار ضرورياً، وأن الثورة لم تعد قادرة على السير وحدها في المواجهة، وأن تقاطع المصالح مع غرب استعماري لا يصيب المبدئية والأخلاقية بضرر، بل ينبغي استغلال الغرب الاستعماري للتخلص من حاكم مستبد، ولإنقاذ جمهور من قمع إضافي. وفقاً لهذه الحسابات، يتحوّل المثقفون ـــــ بوعي ـــــ إلى أدوات تنظّر لأخلاقية التدخل العسكري الخارجي، ويسكتون عن القتل الذي يسبّبه هذا التدخل، ويعتبرون من يُقتلون برصاص الناتو شهداء اضطرت معركة إنقاذ إخوتهم في الوطن إلى التضحية بهم. بمعنى آخر، قرّر هؤلاء أنه بدل أن يناضل الثوار أشهراً إضافية ويقدموا ضحايا في مواجهة الحاكم، لا ضير في الاستعانة بالقاتل الدولي، ولو أدّت إلى مقتل آخرين ذنبهم أنهم وُجدوا بالقرب من مكان إقامة الحاكم المستبد.

هل فكّر هؤلاء في أن القتل هو نفسه القتل؟ وأن القاتل هو نفسه القاتل؟ وأن ما اعتُبر خطوة تجنّب سقوط المزيد من القتلى بين المدنيين تحوّل إلى عملية قتل لمجموعة أخرى من المدنيين؟ هل يفكر هؤلاء، للحظة واحدة، في جمع أرقام القتلى في ليبيا مثلاً، وفرز من قتلته قوات القذافي ومن قتلته غارات الناتو، ومن قُتل في المواجهات بين الثوار وقوات النظام؟ هل يمكن هؤلاء إعطاء رقم حقيقي ونهائي لعدد القتلى، لعلّنا نعرف حقيقة ما قيل في الأيام التي سبقت دعوة الناتو إلى التدخل عن أرقام القتلى وما حصل بعد مباشرة الناتو إجرامه؟
طبعاً، من ينتظر من هؤلاء مثل هذه المراجعة، كمن ينتظر الجنة من إبليس.

في الحالة السورية، قرّر المثقفون، أنفسهم، ومن على تل بعيد، أنه لا حقيقة لكل الكلام عن وجود أناس مع النظام. وقرروا، في لحظة واحدة، أن من يقاتلون إلى جانب النظام مجرد مرتزقة، ومن يخرجون إلى الشارع تأييداً له إما من المجرمين أو من المغلوب على أمرهم. لا يتصوّر هؤلاء، مطلقاً، إمكان أن يكون هناك جمهور مع النظام. وإذا حدث وأقرّوا بوجود البعض، فإن هؤلاء في نظرهم فئة مريضة تحتاج إلى علاج، وجب عزلها قبل إحالتها على مصح، ولو كان على شكل سجن.
في حالة سوريا، رفض المثقفون، من كل الأصناف، الدعوة إلى تسوية واقعية بين النظام والمحتجين. وقرروا أنه لا سبيل إلى أي حل إلا بسقوط النظام. وإذا بادر أحد من المعارضين إلى دعوة للحوار، كُفّر واعتُبر خارجاً على الشرعية الشعبية والنضالية ووجب عزله. وبالتالي، قرر المثقفون، أنفسهم، أن على الشعب السوري مواصلة الاحتجاج وتصعيده، ولو أدّى ذلك إلى سقوط مزيد من القتلى، وكلما سالت دماء أكثر، خرجوا للتبشير بأن الدماء تؤكد استحالة التسوية، وتعمّق الروح الثورية عند الناس. في هذه اللحظات، لا يهتم المثقفون بسقوط المزيد من القتلى، هم يقبلون، ويريدون، تدخلاً خارجياً، ولو أدى إلى تدمير سوريا وقتل الآلاف، بحجة إنقاذ المتظاهرين من بطش السلطات هناك. لكنهم يرفضون الدعوة إلى حوار أو تسوية من شأنها تقليص حجم التوتر ووقف النزف الدموي.
لم يعد الأمر مجرد ترف فكري. إنه التورط بعينه. وإذا لم يتحمّل المثقف مسؤوليته الأخلاقية إزاء الدم الذي يسقط، يتحول، في حدّ ذاته، إلى سلطة قمعية مسؤولة عن سفك مزيد من الدماء… لعن الله هذا الصنف من البشر! 

السابق
نقطة اللارجوع في تمويل المحكمة
التالي
الاخبار: الإنفاق ماشي ولا خوف على الرواتب