الشعب يريد.. كعكا وحليبا!

على المقاعد الدراسيّة ذاتها التي يجلس عليها طلاّب قد لا تتجاوز أعمار بعضهم العاشرة، قبع معتقلون سوريون من جميع الأعمار، وتعرضوا إلى تعذيب وإهانات. اليوم، بعد أن افتتح العام الدراسي، خرج رجال الأمن والشبيحة من «منارات العلم والتربيّة» التي حوّلها النظام السوري إلى معتقلات جماعيّة، لكنهم خلّفوا آثاراً تشبههم، بعضها ملموس وبعضها الآخر شبيه بأطيافهم.
عن الملموس، تتحدّث الناشطة الحقوقيّة السوريّة رزان زيتونة عن شكوى الأهالي من «عبارات نابية خطّها رجال الأمن على الجدران الداخليّة للمدارس». أما عن الطيف المخابراتي، وهو الأدهى، فيتمثّل في لعبة ابتدعها «مربّ فاضل» مع زميلته: وزّعا، في أول يوم بالمدرسة، لوحات كرتونية متشابهة على طلاب المرحلة الابتدائيّة، وكان قد رُسم في الجانب الأيمن من اللوحة تجمّع لأناس يتظاهرون، في حين رُسمت أزهار على الجانب الآخر. أمّا السؤال «التربوي» الذي طرحه الزميلان على الطلاب فهو: اكتب بداخل كلّ زهرة اسم من تعرفهم في هذه التظاهرة!
حدث هذا في إحدى مدارس منطقة القابون في العاصمة دمشق. لمن يودّ، يمكنه أن يتخيّل أن من «سيصّحح» أوراق الرسم هذه هو ضابط في أحد فروع المخابرات!

الغائب: شهيد، معتقل.. أو خائف!

يبلغ عدد الطلاب السوريين في المراحل الدراسيّة المختلفة، حوالى خمسة ملايين طالب وطالبة. وكغيرها من الانتفاضات العربيّة، يشكّل الشباب النسبة الساحقة من المنتفضين السوريين، وعليه ستتلقى هذه الشريحة النصيب الأكبر من عنف النظام. تذكر الناشطة رزان زيتونة بأن «قائمة المعتقلين، بحسب مركز توثيق الانتهاكات، تضمّ، في المجمل، حوالى 444 طالباً في مراحل دراسيّة مختلفة»: وتضيف «لكنّ هذا الرقم لا يعبّر عن واقع الاعتقالات في صفوف الطلاب على الإطلاق، باعتبار أن معظم أسماء المعتقلين تأتي ضمن قوائم تتّضمّن عشرات الأسماء من دون ذكر تفاصيل تتعلّق بمهنهم، والأمر نفسه ينطبق على الشهداء من الطلاب».

أمّا لناحيّة سير العمـليّة التعــليّمية، فلا يبدو أن الأوضاع العامّة في البلد تسمح بالقول بأن العام الدراسي السوريّ سيكون «مستقرّاً». يُستدّل على ذلك بما تقوله السيّدة س. ا. التي تعمل مرشدة اجتماعيّة في إحــدى ثانويّات منطقة الغوطة الشرقيّة (ريف دمشق): «تأثّر دوام الطلاب بالحالة الأمنية بشكل ملحوظ. يتغيّب، يومياً، عدد لا بأس به من الطلاب عن المدرسة، وغالباً ما يكون دوامهم متقطعاً». لكنّ الأمر لا يتوقف على التغيّب الكامل، تضيف السيّدة س: «هنالك عدد من الطلاب يحاولون الهروب من المدرسة قبل انتهاء الدوام بحجة أن الأمن ربما يغلق الطرق، فتصير العودة إلى المنازل صعبة. كما أن الحواجز الأمنية ووجود التظاهرات والانتشار الأمني الكثيف الذي يحصل بين حين وآخر، تمنع الطالب في الكثير من الأحيان من الذهاب إلى المدرسة، وكثيرا ما يخرج الطالب من الصف، خلال الساعة الدراسيّة، ليجيب على اتصال والده الذي يطلب منه أن لا يقفل هاتفه الجوّال أبداً، لأن الوالد سيظلّ في حالة قلق مستمرة حتى عودة الابن».

من جهته، يتحدّث مجد د. الطالب في كليّة الحقوق وابن مدينة «دوما»، عن حال الــحواجز في مدينته: «الحواجز الأمنـية أصبحت تشكّل عقبة في حــياتي كمــواطن أوّلاً ثم كطــالب ثانياً، فجميع الأنشطة التي أريد القيام بها محفوفة بالمخاطر، وأحياناً قد تكلّف الشخص حياته!».
ما يؤكد حديث مجد حول الكلفة الباهظة للعيش في مدينة منتفضة كدوما، هو فقدانها، في أربعة أيام، وخلال الأسبوع الذي سبق العام الدراسي الجديد، ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين الثامنة والأربعة عشر عاما، كانوا قد قتلوا على أيدي عناصر أجهزة الأمن. وهم، بحسب صفحة «نساء سوريات لدعم الانتفاضة السوريّة»: أحمد سلام (14عامّاً)، عزت اللبابيدي (14 عامّاً)، وأنس الريّس (ثمانية أعوام).
 
«الشعب يريد كعكا وحليبا»!

«الله يخليلك هالبنت»، يقول صاحب المحل لأمّ تصطحب معها ابنتها التي لم تتجاوز بعد ست سنوات من العمر. يكمل البائع حديثه: «بكرا بس تكبر بدها تطلع دكتورة». تجيب الطفلة: «لأ، ما بدي اطلع دكتورة، بدي اطلع تظاهرة!».
بمعناها المباشر، تشير الحادثة إلى حجم تفاعل السوريين، بمختلف شرائحهم العمريّة، مع الانتفاضة. ومن خلال معايشتها اليوميّة للطلاب، ترى السيّدة س. أنّ «الوضع السوري يستحوذ على مساحة كبيرة من أفعال وأقوال الطلاب، حيث إنّك ستجد بعض الطلاب يرددون لاشعورياً هتافات وأغاني سمعوها من التلفزيون أو الشارع، وكثيرا ما تسمعهم يخترعون هتافات مضحكة يقارب إيقاعها هتافات التظاهرات، مثل: الشعب يريد كعكا وحليبا».
وتضيف: «قد ينعت الطلاب زملاءهم بألفاظ مثل «مندس» أو «مخرّب»، كما قد تجدهم في الباحة أثناء الفرصة وهم يلعبون لعبة التظاهرات أو الحواجز أو الشبيحة». لكن لا يبدو أنّه يمكن اختزال تفاعل الطلاب مع اللحظة السوريّة الراهنة على هذا النحو «البريء»، تقول السيّدة س. إنّه «يحدث في مدرسة قريبة إلى مدرستي، تضمّ طلاباً من خلفيات طائفيّة متعدّدة، مشاحنات مستمرة بين الطلاب تصل لدرجة الاقتتال بالأيدي.. وهناك تجري اعتقالات».

لكن هل من الممكن أن تحدث اعتقالات في المدارس أو الجامعات؟ يجيب مجد: «اعتقل الكثير من أصدقائي في دوما بتهمة تنظيم التظاهرات والتآمر على أمن الدولة». من جهتها، تروي س. حادثة تتعلّق بمحاولة رجال أمن اعتقال أحد طلاب المدرسّة حيث تعمل. تقول: «دخلت مجموعة من عناصر الأمن إلى المدرسة للبحث عن طالب محدد. كان الطالب غائباً يومها. طلب الأمن من الإدارة أن تستدعيه لتلقي القبض عليه، لكن الموجّه رفض بطريقة مهذّبة، موضّحاً لهم عدم قدرته على فعل هذا الأمر، لأن المجتمع الصغير حوله سيحقد عليه وقد ينتقم منه».
دخلت سوريا بعد أواسط شهر آذار الماضي، مرحلة جديدة في تاريخها، وربما، بعد متابعة مقاطع الفيديو الكثيرة، والتي يظهر فيها طلاب من جميع المراحل الدراسيّة يتظاهرون هاتفين بإسقاط النظام و«لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس»، يمكن القول، إن الانتفاضة السوريّة دخلت، بدورها، مرحلة جديدة، دور تختزله كلمات مجد: «لقد تجرّدت من صفة الطالب، واستبدلتها بصفة الثائر وسلكت طريق الثورة التي فيها خلاصي من حياة الذل..». 

السابق
ماذا أدرس؟ ماذا أعمل؟
التالي
السيد فضل الله وضع حجر الاساس لمسجد في الكواخ _الهرمل