مأساة البطريرك

قد تكون هذه المرحلة من المرات النادرة التي يمكن أن يحسد فيها بطريرك الموارنة مفتي الجمهورية اللبنانية على موقعه وقدرته على اتخاذ موقف. حين اقتربت مرحلة نهاية الحكم الحريري، كان مفتي الجمهورية قد حدّد خياره، وأتت وفاة المرجع محمد حسين فضل الله لتغطي هذا الخيار بواجب التعزية في اليوم الأول، والتالي، ثم بلقاء مع الأمين العام لحزب الله، ثم بالتواصل مع الحزب، ومن بعدها بنبذ المذهبية «البغيضة»، ومن خلفها انهار حكم سعد الحريري وتبدّلت أحوال دار الفتوى داخلياً.
كان تلقائياً أن يقف المفتي في مرحلة لاحقة إلى جانب رئيس الحكومة المكلف، ثم رئيس الحكومة الحاصل على ثقة البرلمان، وبسهولة يتمكّن المفتي من المحاججة بأن هذا هو موقع الطائفة، والرجل الأطول فيها حالياً هو من يحدّد موقفها السياسي، وكفى.
ورغم ذلك، خطا مفتي الجمهورية خطوات إضافية، وحرب المستقبل عليه قائمة. ذهب إلى شبعا، ودار فيها وجال، وعدّل في توظيفات دار الفتوى، وراح يُعدّ للمعركة المقبلة على المجلس الشرعي، فيما تيار المستقبل وكل قوى 14 آذار تفقد غطاءً شرعياً إثر آخر إقليمياً.
مشكلة 14 آذار لا تصيب مفتي الجمهورية، فهو يسمع من المملكة، ومن غيرها، كلاماً غير مشجّع عن تيار المستقبل وصاحبه الأوحد، وبالتالي فإن التيار وقواه الملحقة فقدا القدرة على تقديم أي شيء لدار الفتوى. في الأصل هم عصروها وعصروا عمامتها وتركوها بمفردها أمام شارع معبّأ مذهبياً، واليوم يطالبونها بالثبات في الشارع بانتظار مرحلة أخرى.
قد يحسد البطريرك المفتي على العديد من النقاط، منها ما سبق، ومنها أن المفتي يمكنه التأقلم بسهولة مع المتغيرات في المنطقة العربية. الثورات المشتعلة في أكثر من مكان لا تضير طائفة دار الإفتاء، بل على العكس، يمكنها أن تجدّد الدم في شرايينها، بينما تجمد الدم في شرايين طوائف أخرى. وليس الحديث عن السلفية المستشرية والإخوانية المحدثة إلا غيضاً من فيض ما تحمله هذه الثورات لدار الفتوى. ولدى الدار بدل المملكة وأتباع عبد الله الوهّابي تاريخ طويل مع الأزهر وأتباع مصر العروبة، وكيفما دارت الدوائر فهي ستمطر خيراً فوق دار الفتوى ما حافظت الأخيرة على موقعها. 
ولكنّ للبطريرك هموماً أخرى. عليه أن يعلم جيداً لماذا قرّر الفاتيكان ما قرره بشأن من سبقه في سدة البطريركية، وعليه أن يزور باريس، حيث يطلق ما أطلق من مواقف، سيقول نعم ــــ لا لسلاح المقاومة، لا للثورات (السنّية) في المنطقة، ثم ينعطف ليضيف، نعم لمقاومة بصفتها فعلاً ماضياً حرّر لبنان وحماه.
بعدها سيزور البطريرك بشارة الراعي الجنوب ليقول نعم للمقاومة كفعل ماض، ونعم أخرى للعيش المشترك، ثم يحيد نحو دار الإفتاء ليقول ما جاء في البيان من دور للمسيحيين وعيش مشترك وحبّ اللبنانيين للقوانين (مع إصرار على تجاوزها كل الوقت)، وضرورة احترام الحريات.
إلا أن البطريرك سيحتاج إلى أكثر من ذلك حتى يتمكن من إيضاح موقف كنيسته. المسألة لم تعد في الوقوف إلى جانب قوى 14 آذار التي استقالت وتحاول وضع نفسها في الثلاجة بانتظار ما سيحصل في سوريا. فالأوان اليوم لإيجاد جواب الـ«لعم» لكل ما يحصل حول المسيحيين في المنطقة، وها هي الحجة الأبرز «ما سبق أن حصل للمسيحيين في العراق»، علماً بأن ما فعله أبو مصعب الزرقاوي بمفرده بأهل السنّة في العراق يفوق أضعافاً مضاعفة ما وقع للمسيحيين هناك.
لم يخطئ مفتي الجمهورية حين اعتبر اللقاء تاريخياً، سواء من حيث الشكل أو المضمون. فأقصى طموحات المجتمع اللبناني اليوم تجنّب الأسئلة الأصعب، نهج جديد في تجاوز الخلاف وتركه لينفجر لاحقاً، من رواد نهضة وثورات إلى باحثين عن مناصفة بائسة. وأقصى طموحات المسيحيين اليوم التلطّي خلف طوائف أكبر، بينما كانوا في الماضي يخرجون من الكنيسة إلى العالم الرحب، يستوردون العلمنة والقومية والماركسية والفاشية وحتى العروبة البعثية والنازية ويطبقّونها مغامرين ببلادهم، دافعين المنطقة إلى حراك لا قبل لها به.
سبب آخر يمكن أن يجعل البطريرك يحسد المفتي. ففي ساحة المفتي من التنوّع اللوني ما يصل الأزرق المستقبلي بالأحمر الاشتراكي مروراً بمختلف ألوان طيف معارضين سنّة ومؤيّدين للمقاومة مع حفظ الأحجام والأوزان، بينما الحدّان الأقصيان للمسيحيين اليوم هما: إما البطريرك نفسه وإما سمير جعجع، يا للمأساة. 

السابق
طبخة التعيينات نضجت
التالي
حوري: أصوات من شركاء ميقاتي يشوشون على تمويل المحكمة