سوريا: أين المشكلة؟

لا توجد في سوريا مشكلة، هناك مؤامرة يتم التصدي لها بوسيلة صد المؤامرات: القوة. هذا كل شيء، ومن يرى غير ذلك هو إما مضلل من قبل الفضائيات والصحافة المتآمرة، أو أنه متآمر، وهو يستحق العقاب في الحالتين. إلى هذا، ليس من المنطقي أن يغير مسؤول نظامه الذي يقع التآمر عليه، وإلا حقق أهداف المتآمرين، الذين لا يريدون شيئا غير هذا التغيير، فإن أحدثه النظام استجاب لمطلبهم، بينما يتوفر لديه فائض قوة يكفي لقهرهم وردع تآمرهم، بل وإحراز انتصار حاسم عليهم. باختصار: ليس ما يجري ناجما عن أسباب داخلية تطال بنية النظام أو سياساته أو خياراته، بل هو تآمر خارجي له أدوات داخلية.

والمتآمرون لا يستهدفون النظام بسبب عيوب ما لصيقة به، بل بالعكس، إنهم يريدون رأسه لأنه نظام قليل العيوب، أو خال تماما منها، فليس من المعقول أن يتم التخلي عنه كليا أو جزئيا بحجة القيام بإصلاح مزعوم هو في جوهره تخريب متعمد له، مهما كان محدودا وبرانيا. لا إصلاح، لأن الإصلاح مطلب المتآمرين الذي يتسللون من خلاله إلى وعي الشعب فيحرضونه، والشعب طيب، بل هو ساذج، يصدق ما يقال له لمجرد أنه يبدو براقا ومغلفا بحديث الحرية والعدالة، أما النظام فهو يقظ وواع ويقرأ ما بين السطور وما في الصدور، وهو قادر على كشف النوايا ومعرفة الخبايا، لذلك يتمسك بنظرية المؤامرة مهما واجه من ضغوط، داخلية كانت أم خارجية، ويرى في تناغم هذه الضغوط الدليل القاطع على وجود المؤامرة، فلا يجوز أيضا التهاون معها والاستجابة لها، خاصة أن منزلق الإصلاح لا يقل خطورة عن مخاطر التمرد الشعبي، وأنهما يرميان كلاهما إلى تحقيق هدف واحد: إخراج النظام من حال التمكن والرسوخ ودفعه إلى مبارحة بنيته، فلا يستطيع بعد ذلك وقف ابتعاده عنها، فيضيع بعد حين مثلما جرى للبلدان الاشتراكية السابقة في شرق ووسط أوروبا.

إذن: لا إصلاح ينجزه الحاكم البصير والحذر، لأن أي إصلاح يفضي إلى النتيجة ذاتها التي تترتب على التمرد الشعبي، ولأنه من غير المعقول أن يضع حاكم نفسه في موضع يكون فيه خصم نفسه وعدو نظامه، وأداة بيد المطالبين برأسه! ماذا يحدث في ظل خيار رسمي كهذا؟ لا يخرج الشعب من الشارع بالقوة المفرطة التي تستخدم ضده، ولا يرى الشارع ضوء الإصلاح في نهاية النفق، ويقع تصعيد متبادل يزج البلاد في عنف رسمي متزايد والشعب في طريق آلام لا نهاية لها، تزيده غضبا على غضب، وتقنع أقساما متعاظمة منه بضرورة ممارسة عنف مضاد، إن تواصل وتفاقم كانت الحرب الأهلية وغير الأهلية النتيجة المباشرة للانسداد والتباعد بين سلطة تعيش على القوة وشعب يطالب بالحرية والعدالة، يفقده القتل الجرأة على التوقف عن الاحتجاج، بعد أن قدم تضحيات كبيرة يخشى أن يحولها العنف الرسمي ضده إلى حرب إبادة تطال وجوده كله، فيكون موته الآني بالمفرق، مهما كانت أعداده كبيرة، أقل تكلفة من موته المقبل بالجملة.

الغريب أن النظام لا يقر بأن هذا الوضع يعني أمرا واحدا لا لبس فيه هو وجود أزمة تتطلب المعالجة. إنه يرفض التفكير بهذه الطريقة، ويرى في الحال القائمة مجرد خروج على الأمن لا بد من إنهائه بالقوة، وليس أي شيء آخر مما تقوله حتى أوساط واسعة منه، ناهيك عما يقوله معارضوه وخصومه. ينزل الناس إلى الشارع بالملايين، وترفع شعارات ومطالب تتصل جميعها بالشأن العام وبموقفها من الواقع الظالم، بينما تبدو القوة عاجزة عن إخراج الناس منه، والأزمة مفتوحة على أسوأ الاحتمالات، ومع ذلك لا يقر أرباب الأمر القائم بأن هذه أزمة لا سبيل إلى التخلص منها إلا بالسياسة ووسائلها وقواها، لأن إقراره ينقض فرضيته حول المؤامرة وضرورة معالجتها بالقوة، وقد يخلق بلبلة في صفوف أتباعه يكون لها نتائج خطيرة وربما قاتلة بالنسبة له.
 
لو أقر نظام بوجود أزمة، لما استخدم القوة، لأنها لا تصلح لمعالجتها، وهو يتمسك بنظرية المؤامرة كي لا يستخدم السياسة، فيكون استخدامها بداية النهاية لتفرده بالشأن العام. هكذا يصير من الحتمي القول: النظام هو الذي خلق الأزمة، لأنه انفرد بالحكم والقرار طيلة قرابة نصف قرن، وهو الذي يحول دون حلها اليوم، لأنه لا يعتبرها أزمة ويسعى إلى حلها بأدوات لا تصلح للتعامل معها.
في السابق، كانت إدارة الأزمات فنا لطالما أتقنه أهل الحكم في سوريا، واليوم، يدير هؤلاء أزمة يحولونها بالقوة إلى مأزق ضحيته الشعب والوطن، دون أن يقروا بأنه نتاج أزمة من صنع أيديهم.

يعتمد النظام في مواقفه على سلبية العالم، التي تخرجه من موازين القوى الداخلية وتسهم بصورة غير مباشرة في ترجيح كفته على كفة الشارع. أما إداناته فهي ثمن مقبول لديه، ما دامت تغطي انسحابه وتؤكد خروجه من المعركة ضده، ولو إلى حين، بينما تزيد المحتجين والمتمردين شعورا بالعزلة والترك. في هذه الحال، يبدو الموقف الدولي وكأنه يكرر ما سبق أن فعله في تمردي شيعة وكرد العراق، عندما شجعهم على النزول إلى الشارع ضد صدام حسين، ثم تخلى وأحجم حتى عن إرسال بعثة حقوق إنسان من الأمم المتحدة كي تراقب ما يجري للبشر المساكين وحقوقهم الضائعة. لكن هذا الشعور بالترك يدفع الناس إلى مزيد من التطرف، وقد يقنعهم بالرد على العنف بالعنف، ويوهمهم بأنهم صاروا مخيرين بين موتين: الموت وهم عزل أو الموت وبيدهم السلاح، وأن الموت الثاني أفضل لهم، لأنه قد يتيح لهم قتل أحد ما من قتلتهم، فلا سلمية إذن ولا من يسالمون، ولا حرية ولا من يتحررون، بل: العين بالعين والسن بالسن، والبادي أظلم: ذلك هو الفخ الذي نصبه النظام لهم منذ بداية تمردهم، والذي يراد للقوة المفرطة أن تجبرهم على الوقوع فيه، فيتفق واقعهم عندئذ مع الوضع الذي أراده لهم منذ بداية تمردهم ضده: أن يتحولوا إلى عصابات مسلحة قهرها أسهل منالا من إخراجها من الشارع: كجماهير سلمية تطالب بالحرية! تكمن مشكلة سوريا اليوم في التالي: إن من أنيط بهم تجنيبها الأزمات هم الذين يديرون أزماتها التي أنتجتها سياساتهم، والذين يحتجزون الإصلاح ويدفعون شعبها بالقوة المفرطة إلى منزلق العنف القاتل، لاعتقادهم أنه سيتكفل بالقضاء على طموحاته ومطالبه العادلة والمشروعة.
إلى أين من هنا؟ لا أحد يعلم بدقة، وإن كنا نؤمن كمعظم السوريين أن رهان السلطة على الإبقاء على النظام الحالي هو عبث يرجح أن يكون ثمنه وجود سوريا ذاتها! 

السابق
الاخبار: ميقاتي..عدم تمويل المحكـمة يخدم إسرائيل
التالي
ترويج نظرية الخطأ التقني فـي مجلـس الأمـن!