زيارة برّاقة إلى الجنوب السياسي

ترجل من موكبه المهيب، يُفتح باب السيارة أمامه، يدخل الباب الواسع لإحدى المؤسسات الكبيرة في الجنوب، الجمهور يصطف على الجانبين، يصفق، يوزع إبتسامته البريئة عليه، يتفاعل مع اللحظة، يغالي، يرتفع منسوب الثقة. صاحب الغبطة يصافح الموظفين، كل بمفرده. البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في الجنوب، حدث تاريخي، تغيرت معه معالم اللعبة السياسية، الشيعة في الموقف نفسه، ردة فعلهم نفسها مع كل الأحداث، من أمير قطر، إلى الرئيس التركي، ومحمود أحمدي نجاد والبطريرك الراعي…

ثلاثة أيام، كثيرة هي المحطات، كثيرة اليافطات المرحبة، كثيرة الصور، وكثيرة الكلمات. البطريرك مار بشارة بطرس الراعي يتوزع الأرجاء، الشوارع كلها تتكلم باسمه، ترفع مواقفه عاليا، "هللويا"، إنه أب الحوار، أعادنا إلى زمن السيد موسى الصدر، في وقت إشتدت التناحرات الطائفية والمذهبية، وبلغت لعبة السياسة في لبنان أوج وسخها، وخاضت على هموم المواطنين آلاف المعارك النيابية، وكانت دائما سياسة مصالح الأطراف والأحزاب.

 

اليوم تغير وجه لبنان، بعد زيارة إستثنائية تاريخية، تفاعل معها أبناء الجنوب، فلكلور شعبي مهيب، قوى الأمن تنتشر في المناطق، المواطنون أو الحزبيون يلتحفون الطرقات، ينتظرون مواعيد غير منظمة، من الثانية ظهرا إلى السادسة، موعد الوصول إلى النبطية الفوقا، أصبح الغداء المقرر… عشاء، فوضى تنظيمية، بقي معها الناس أربع ساعات في الشارع. الوقت ليس مهما، الأحزاب السياسية قررت نزول الناس، الموافقة طبيعية والحضور إلزامي، المحجبات تخترقن صفوف المنتظرين، والجمهور يبشر باللاطائفية، ينتظرون صاحب الغبطة، يرددون مواقفهم المعلنة في فرنسا عن المقاومة، كل من تحدث عن المقاومة امتداحا "نبيّ منزل"، كل من انتقد المقاومة خائن وعميل، تمهلو! وضعوا المواقف في الميزان.

يتساءل بعض من مسيحيي النبطية ماذا قدمت لهم الزيارة، على اعتبار أنّ زيارته كانت للشيعة: "هل عرف ما نعيش؟ هناك تحديات تواجهنا كل حين: هل عرف كيف نتعايش وتعايشنا؟ هل اقترب من أحدنا سائلا عما تعنيه لنا النبطية؟ لم نشعر يوما أننا أقليات، كان لنا الفضل على المدينة، فضل العلم والثقافة الذي دائما حملنا، لم أشعر أني بحاجة لهذه الزيارة لأضمن حقوقي في عيش مشترك، ولم أكن أنتظر خطاب الشيخ عبد الحسين صادق عن الألفة والمحبة، ولا الكلمات المطولة للدكتور عباس وهبي باسم البلدية، و لا كلمات النائب محمد رعد، ولا حضور النواب ياسين جابر وعبد اللطيف الزين، وعلي عسيران وميشال موسى وزياد أسود وكل الشخصيات السياسية، أنا مسيحي، وجودي في النبطية مصقول بتاريخها، وزيارة البطريرك كانت للشيعة، لم تكن لنا"، هكذا قال أحد المسيحيين في النبطية تقييما لزيارة البطريرك: "فليكلموه عن منع الكحول، عن مسجد حارة المسيحيين، عن لعبة السياسية وسدّ الأفواه، فليكلموه عن الحوار، الذي يحمله ويحملون!

لا يمكن لأحد إنكار أهمية هذه الزيارة. هي حدث تاريخي في الجنوب. يكفينا أن يأتي غبطة البطريرك ليأتي أصحاب المعالي من النواب والشخصيات الرسمية لزيارة الجنوب. جميل أن تتجول المواكب المسودّة بالسيارات على طرقنا، جميل أن تنزل سياراتهم في كل حفرة منسية، وأن ترى الحارات المهملة في الطرق الأمنية حيث يعرّجون. جميل أن أرى كل هذه الوجوه حاضرة في الجنوب. جميل أن تضجّ القرى بثلاثة أيام، نامت فيها المدينة قريرة العيون. مواقف سجلت في دفتر الزمن، الكل يعلم أن تاريخنا يتحرك وكأنه مكتوب على صفحات الماء.

الراعي سيعود إلى بطركيته، فهل ستعود مواقفه معه؟ سؤال مفتوح ، يسجل كما كل حين. وردة الفعل الشيعية التي تغلي غليا لم تعتد الإتزان، فنحن دائمو التطرف… 

السابق
يتظاهرون بملابسهم الداخلية احتجاجاً
التالي
عبود: اتوقع خيرا من القمة الروحية