مجلس للملل

 وزير الداخلية السابق زياد بارود يرى أنه تحرر من عبء الموقع الوزاري. معضلة مزدوجة تلك: الوجود على رأس سلطة تنفيذية في وزارة الداخلية مهمتها رعاية انتخابات ولكنها أداة غير طيّعة في يد وزيرها، أو أن توضع خارجها وتطلق يدك في العمل من أجل مشاريع طوّرتها ثم عجزت عن تنفيذها، ومن ثم عدت للعمل من أجلها، ولكن من خارج الملاك والسلطات.
يعلم بارود أن من يقررون شكل الانتخابات وقانونها في لبنان هم الطوائف اللبنانية متمثلة في توافق ما بين المواقع الدينية وتلك المدنية للقيادات السياسية، كما صار يعلم أن الخروج عن إرادة الطوائف مكلف. فقد رحل بارود عن السلطة التنفيذية وبقي المدير العام لقوى الأمن الداخلي الذي تمرد على الأوامر المباشرة، وأصبح بارود يلعب في الظل، بينما المدير العام أشرف ريفي يلعب تحت الضوء، وسيحصد المزيد من الضوء في العامين المقبلين.
وإن قال وليد جنبلاط إن فهم النسبية أشكل عليه، فمعنى ذلك أن على النسبية أن تناسب فهم ( اقرأ مصالح) وليد جنبلاط بصفته ممثل الدروز في لبنان، وإلا فلُنبق على القوانين القديمة. وإن تطلب الأمر خوض أزمة والتوصّل إلى تسويات، فلا غضاضة في ذلك ولا خجل، فالحكم في البلاد يقوم على أزمات تليها أزمات، وحين تقع مشكلة لا تحلّ يكفي أن تنتظر القوى الحاكمة وصول أزمة أخرى لنسيان الأزمة الماضية وإهمالها دون حل.
وصلنا إلى أزمة شهود الزور، وكاد البلد ينفجر، ثم قضي الأمر لحسن الحظ بإسقاط الحكومة، وبعد طول شد وجذب وصلنا إلى تأليف حكومة، ولكن من بعدها نام ملف شهود الزور وأزمته والتوتر الداخلي لنستفيق على أزمة كهرباء ومواقف البطريرك بشارة الراعي. وتعقيد قانون الانتخاب هل هو نسبي أم على رأس الناخب، سينتهي إلى الحل الأسهل طبعاً، الذي يديم القوى بتوازناتها الحالية إذا لم تتغيّر الحال في سوريا.
توازنات القوى المحلية قد لا تستسيغ تعديلات فعلية في نظام الحكم، والانتخاب وإفراز القيادات الجديدة. توازنات القوى المحلية تفضّل البقاء على ما نحن عليه. وسواء أجاد بارود في شرح النسبية أو قدّم أفضل ما لديه في دراسات لتقسيم الدوائر الانتخابية على نحو متوازن ومتوافق مع التعقيدات الطائفية وعدد النواب، أو أهمل ذلك وشرح الفوائد السياسية التي ستجنيها هذه القوى من النسبية، فالأمر سيّان للأسف.
أزمة أخرى تضاف إلى إشكاليات تطوير الحياة السياسية في هذه البلاد، وهي الرعاية السياسية لمن ينتهج نهجاً للتطوير. فبارود كان «من حصة» رئيس الجمهورية، وكان يفترض أن رعاية رئيس البلاد تسمح لبارود بتنفيذ انتخابات نيابية ومن بعدها بلدية أقل فساداً. ولكن تعاون «الأهالي والأجهزة» وفراغ رئاسة الجمهورية من مفاعيلها، سواء أكان الأمر مقصوداً أم خاضعاً للتعقيدات المذهبية والدستورية، أدّىا في النهاية إلى وصول الانتخابات المذكورة إلى مستوى قياسي من الفساد.
كل القوى دفعت الرشى وصرفت المال الانتخابي في الشوارع والأزقة، ولكن لا القوى الأمنية والأجهزة تمكّنت من تقديم تقرير موثّق عن الموضوع، ولا الأهالي شعروا بحال من الأحوال بضرورة تقديم معلومات عن الرشى، خاصة أن حاميها حراميها. وبقيت الرئاسة تشاهد ما يجري حولها كأن الوزارة ليست ضمن رعايتها ولا هي من يمثّل دستورية البلاد وسلطاتها.
الرئاسة نفسها تخلّت عن بارود، وفي لحظة المساومة أتت ببديل رائع منه هو من يترأس الوزارة حالياً ويحمل حقيبتها، ويرى أن الله قد عفا عمّا مضى، من دون أن يعلم ما مضى وما سيأتي.
والرئاسة نفسها تخاطب دول العالم اليوم بالقول إن «لبنان ملتزم دوماً باحترام قرارات الشرعيّة الدوليّة »، ناسية أن لبنان لم يلتزم إلى اليوم بتنفيذ القرار 1559، وأنه عجز عن الوصول إلى موقف موحّد بشأنه، وأن الخطابات التي تلقى عن المحكمة الدولية ستعاد صياغتها لاحقاً، بحسب الصراع الداخلي من جهة وبحسب الوضع السوري من جهة أخرى، وبحسب الهجمة الغربية على المنطقة من ناحية ثالثة.
البدء بالحديث عن قانون انتخابي من اليوم وشكله وهل هو نسبي أو أكثري يتطلّب أولاً إعادة نقاش وزارة الداخلية إلى أوّله، وهيئة الرقابة المستقلة، واعتماد مجلس نواب تشريعي، مع مجلس شيوخ لحفظ توازنات الملل (بحسب دستور الطائف)، أو سيبقى مجلس النواب على شكله الحالي الذي يحمل عدة وظائف ويعجز عن تأدية أيّ منها. وسيبقى بارود ومحبّو النسبية يحاولون إقناع القوى التي تمثّل السلطات اليوم بالتنازل عن مكاسبها، بينما هي مستعدة للقتل للحفاظ على هذه المكاسب. 

السابق
حيث نجحت تركيا وفشل العرب والإيرانيون…
التالي
سورية والحوار… لكن مع من؟