حيث نجحت تركيا وفشل العرب والإيرانيون…

 أين نجحت تركيا وأين أخفق العرب ومعهم ايران؟ نجحت تركيا في مكانين. نجحت في الاقتصاد أوّلاً ونجحت في الديموقراطية ثانياً وأخيرا. ولذلك في استطاعة رجب طيّب أردوغان رئيس الوزراء التركي الذهاب إلى القاهرة والقاء دروس على العرب وإسرائيل، بما في ذلك الدعوة إلى قيام دولة علمانية في مصر على الرغم من أنه الوجه الأبرز في حزب إسلامي!
بالنسبة إلى الاقتصاد، تحتل تركيا موقعاً بين الدول العشرين الاولى في العالم. ولاعطاء فكرة عن قوة الاقتصاد التركي وحجمه، يمكن الاكتفاء بالاشارة إلى أن حجم الصادرات التركية في السنة 2010 بلغ نحو تريليون واربعة عشر مليار دولار وذلك استناداً إلى الارقام المتداولة عالميا. لم ترفع تركيا الشعارات الفارغة. استطاعت تطوير نظامها بعيداً عن الانقلابات وبات الحكَم، في كل شيء تقريبا، صناديق الاقتراع بديلاً من المؤسسة العسكرية التي كانت إلى ما قبل سنوات قليلة صاحبة الكلمة الفصل في معظم الامور.
شيئاً فشيئا، انتقلت تركيا إلى مصاف الدول المتقدمة بفضل اقتصادها الذي استطاع تطوير نفسه وسمح بتنمية حقيقية على صعيد البلد كله ورفع مستوى معيشة المواطن العادي. لم يعد يهمّ تركيا، الذي تطوّر نظامها السياسي تدريجا، دخول الاتحاد الاوروبي او عدم دخوله. صار في استطاعتها تحديد خياراتها واولوياتها استناداً إلى المصالح التي تهمها وتعنيها. وهذا ما مكّن اردوغان من الذهاب إلى القاهرة والتحدث بنبرة عالية محذراً من «حرب أهلية» في سورية ومؤكداً في الوقت ذاته أن لا تراجع عن الموقف الحازم الذي اتخذته انقرة من حكومة بنيامين نتانياهو قبل تقديم اعتذار رسمي وتعويض ذوي ضحايا السفينة «مرمرة» الذين قتلهم الإسرائيليون في طريقهم إلى محاولة فكّ الحصار عن غزة قبل ما يزيد على سنة.
لا شك أن الاقتصاد لعب دوراً مهمّاً في تحويل تركيا إلى قوة اقليمية تستطيع اعطاء دروس إلى الآخرين. ولا شكّ ايضاً أن اسرائيل تأخذ الموقف التركي على محمل الجد وأن كلام اردوغان يقلقها في حين أن كل كلام آخر عن «محوها عن خريطة الشرق الاوسط» يصدر عن هذا المسؤول الايراني او ذاك او عن توابع ايرانية في المنطقة يثير الارتياح لديها. بكلام اوضح تحوّلت تركيا إلى دولة جدية تعرف تماماً ماذا تريد وذلك على الرغم من الارتباك الذي يظهر بين حين وآخر على موقف المسؤولين فيها عندما يتعلّق الامر بسورية. فالواضح أن التطورات السورية وحجم الانتفاضة الشعبية في البلد فاجأت الجميع، بما في ذلك الاتراك، الذين لم يعتقدوا يوماً أن الشعب السوري قادر على القيام بثورة من هذا النوع تجاوز عمرها ستة اشهر!
ما يحمي الاقتصاد التركي قيام دولة مؤسسات تحمي المستثمر الاجنبي وترسخ الاستقرار. تفوقت تركيا على العرب، بفضل الصناعة والخدمات والزراعة، على الرغم من أن لا نفط لديها. لعبت الديموقراطية دوراً حاسماً في تطوير الانسان التركي الذي يتحدث اليوم اردوغان باسمه.
من حق رئيس الوزراء التركي إعطاء دروس إلى الآخرين انطلاقاً من القاهرة. النظام في تركيا تحوّل تدريجاً إلى نظام ديموقراطي بحماية الجيش في مرحلة معينة. لم يعد حزب اردوغان، وهو حزب اسلامي، الأتراك بأنه سيقوم يثورة وسيقلب حياتهم رأساً على عقب نحو الأفضل، كما فعل الثوريون من رجال الدين في إيران. على العكس من ذلك، استثمر الحزب في تطوير الاقتصاد وبناء مؤسسات الدولة بعيداً عن أي نوع من المزايدات. بقي أردوغان يحترم اتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة القائمة على العلمانية. لم يفعل ما فعله قادة الثورة الإيرانية الذين وعدوا شعبهم بأنه لن يعود اقتصاد البلد اسير العائدات النفطية. كانت النتيجة بعد ما يزيد على ثلاثة عقود من الثورة، التي اطاحت الشاه، ان الاقتصاد الايراني اسير عائدات النفط اكثر من اي وقت وأن عدد الايرانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر يزداد يومياً…
لا يمكن الحديث عن فشل ايراني فقط. هناك أيضاً الفشل العربي الذي انتهت إليه مصر التي لم تستطع إقامة دولة مؤسسات ولم تستطع بناء اقتصاد قوي بسبب بقائها اسيرة نظام عسكري نشأ في العام 1952 ولم يتمكن من تطوير نفسه. بقيت مصر اسيرة نظام متخلّف كان فشله الاوّل اقتصادياً وذلك قبل الحديث عن بناء دولة مؤسسات يحترم فيها القانون. ولمّا بدأ التفكير في اصلاحات جذرية يمكن أن يتولاها جمال حسني مبارك، الذي كان مفترضاً أن يخلف والده استناداً إلى حسابات خاطئة، جاء ذلك متأخراً نظراً إلى أن الاقتصاد المصري كان قائماً على أسس واهية. لم يكن هناك وجود لمؤسسات دولة تحمي المستثمر قبل أن تحمي رجال الاعمال المصريين الذين يعملون بشكل مستقل عن النظام.
نعم، يستطيع اردوغان التحدث إلى العرب وغير العرب بنبرة عالية. في النهاية لا شيء ينجح مثل النجاح. هذا لا يعني من دون شك أن النظام في تركيا نموذج يصلح لكل دول المنطقة من دون استثناء. فما لا بدّ من الاعتراف به أن لكل دولة خصائصها ولكن يظلّ الاهمّ أن رئيس الوزراء التركي وجه تحذيراً مبطناً إلى الاخوان المسلمين في مصر فحواه أن عليهم التفكير في الوصول إلى السلطة بعيداً عن الشعارات الدينية وأن لا مستقبل سوى للدول التي تمتلك مؤسسات مدنية حتى لا نقول علمانية. في النهاية الاقتصاد هو الذي يتكلم. والارقام هي التي مكنت رئيس الوزراء التركي من الظهور في مظهر من يستطيع القاء دروس على الآخرين من منبر اسمه القاهرة!
 

السابق
طهران.. الإمامة وأوهامها!
التالي
مجلس للملل