صياغة جديدة لعلاقات لبنان مع الدول المنتفضة

 حتلّ الشأن الاقتصادي المكانة الرفيعة عند الدول التي تحترم نفسها، إنّه محور السياسات والخطط والاستراتيجيات، والدافع الى الحروب والمواجهات في سبيل تغيير الواقع نحو الأفضل. إنّه العنصر الضاغط راهنا على عواصم دول القرار لاعتماد أساليب مجدية في التعاطي مع الدول التي تشهد انتفاضات، وتغييرات قد تطال كلّ مرافقها الحيويّة.

ويأتي إعلان رئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان من نيويورك عن استضافة بيروت مؤتمرا حول الاستثمار في ليبيا ليأخذ النقاش المجدي في اتّجاهات ثلاثة، الأوّل محلّي وقد بدأ قبل مدّة على مستوى المستثمرين، ورجال الأعمال، وأرباب التجارة والصناعة حول الخسائر والانتكاسات التي مُني بها الاقتصاد اللبناني نتيجة ما يجري في المحيط، وخصوصا في سوريا، والمردودات السلبيّة التي تأثّر بها القطاع السياحيّ لصعوبة المواصلات البرّية، وأيضا حركة الاستيراد والتصدير، والتدابير الناشئة عند نقاط العبور، وتزايد الانكماش الاقتصادي وما يتركه من تداعيات سلبيّة تتأثر بها غالبيّة القطاعات الإنتاجيّة والاستهلاكيّة بصورة مباشرة، بحيث يشكّل الركود جامعا مشتركا.

ويتسلّل النقاش الى جيب المواطن نتيجة حوار الطرشان ما بين العمّال وأرباب العمل، واحتمال رفع الحدّ الأدنى للأجور وزيادة الرواتب، والمضاعفات التي قد يتركها على سوق العمل، والتضخّم الماليّ الاقتصادي، وازدياد نسبة البطالة، وجنون الأسعار التي قد ترتفع بصورة خياليّة إذا لم تفعَّل أجهزة الرقابة، وسياسة العقاب والثواب.

ويتناول الاتّجاه الثاني التعاطي اللبناني الرسميّ والخاص مع الدول المنتفضة. هناك أولويات تتجاوز من حيث خطورتها الكيديّات التي نعالج بها شؤوننا الوطنيّة، وأولويّاتنا السياسيّة والأمنية والاقتصاديّة. إنّ الحديث عن المحكمة وتمويلها، وعن الكهرباء، والتعيينات الإداريّة، والسلاح الشرعي واللاشرعي، واليونيفيل، والجنوب، والقرار1701، وغيرها من المواضيع التي تملأ فضاءنا وفضائيّاتنا ليست الأهم، وقد أشبعناها بكيديّاتنا ومكائدنا بما لا يُسمن ولا يُغني، فيما كان القطاع الماليّ – الاقتصاديّ يغرّد خارج السرب ويثير في مجالسه وكَولَساته العديد من المواضيع الحسّاسة انطلاقا من سؤالين مفصليّين: كم تأثّرت مصارفنا وصناعاتنا وتجارتنا، وحركة الاستيراد والتصدير، والقطاع السياحيّ نتيجة الانتفاضات التي شهدتها وتشهدها الدول العربيّة؟. ثمّ أيّ اقتصاد مستقبليّ – استشرافيّ يعدّ لبنان للتعاطي مع هذه الدول التي تخلّت عن أنظمتها السابقة، ولم تسعفها الظروف باختيار البديل بعد؟

هناك من يتحدّث اليوم عن القطاع المصرفيّ اللبناني في سوريا، وعمّا أصابه من صعوبات وتحدّيات جديدة. وما أصاب قطاع النقل والترانزيت والسياحة والتجارة والصناعة من انتكاسات لم تكن محسوبة. ويسري الحديث ليشمل مصر، والى حدّ ما تونس، واليمن، والضرر الكبير الذي يتحمّل وزره المستثمر اللبناني، وغياب البدائل والخطط والبرامج والدراسات الاستراتيجيّة، واقتصار المعالجات على ما يقوم به المعنيّون مباشرة، وبوسائلهم الخاصة.

ويتناول الاتّجاه الثالث ليبيا، وتنطلق فكرة المؤتمر الذي دعا اليه رئيس الجمهورية من التغيير الذي حصل، وضرورة فتح صفحة جديدة مع هذا البلد العربي الواعد، متحرّرة من تركة الماضي وأعبائه وتحدّياته، وذلك إفساحا في المجال أمام الطاقات والإمكانات اللبنانيّة الرائدة كي تسعى وتعمل وتستثمر وتساهم في ورشة إعادة إعمار ليبيا، خصوصا وأنّ دراسات متخصّصة قد تنبّأت بأنّها ستكون في غضون السنوات القليلة المقبلة دبي المغارب العربي من دون منازع. والفرصة هذه دونها تحدّيات كبيرة، ولا تكفي الأفكار والنوايا بل يفترض ان تكون هناك خطة مدروسة مبرمجة تؤدّي الى تحقيق الهدف، لأنّ التهافت الدولي على هذا البلد العربي الغنيّ بالنفط والثروات الدفينة كبير ومقلق، ولا يقتصر على دول حلف الناتو الذي دمّر المرافق الليبيّة بذريعة دعم الانتفاضة ومواجهة العقيد المتواري، بل هناك فيض من الدول الأخرى المتهافتة للاستئثار بالفرص والإمكانات والمقدّرات. ويستوجب هذا التحدّي تفعيل دور السفارة اللبنانيّة بطرابلس الغرب، وزيادة الجهاز البشري المتخصّص كتعيين ملحق اقتصاديّ، وآخر ثقافي، بحيث لا يقتصر الحضور كما هو الحال الآن، على سفير ومعه دبلوماسي ملحق. ثمّ تفعيل الدبلوماسيّة اللبنانيّة حضورا وتحرّكا كأن تكون الخطوة المرتقبة إعادة فتح السفارة الليبيّة في بيروت، ومدّها بالعنصر البشريّ النشيط، وإعادة النظر في العلاقات الثنائيّة، ومراجعة كلّ الاتفاقيّات المبرمة، وفتح ملفّاتها بهدوء وترَوٍّ، وإبطال ما يفترض إبطاله منها، وتعديل ما يجب أن يُعدّل، وتحديث ما هو حيويّ لمصالح البلدين كي يواكب روح العصر.

وما يسري على ليبيا يفترض أن يشمل مصر وتونس، لأن ليس هناك ما يشير الى أنّ الدولة قد حرّكت ساكنا باتّجاه قيام مسح شامل للعلاقات، خصوصا في المجالات الاقتصاديّة والسياحيّة والثقافيّة مع هاتين الدولتين انطلاقا من المتغيّرات التي حصلت، ومن التطلّعات المستقبليّة، ومدى القدرة والإمكانيّة على أن يكون للبنان دور يعتدّ به، ويعتمد عليه للمساهمة في ورشة إعادة البناء والإعمار. 

السابق
إيران شيرين خانم
التالي
«جمعة» الإرادة.. أم «غولدستون» آخر؟!