الفقراء لا يدخلون.. “الدراما”

 حان الموعد. كل شيء حاضر. الوسادة المريحة على الكنبة في صدر الصالون. صوت فرقعة الفوشار الذي كاد ان ينضج تماماً. قنينة المشروب الغازي (دون تسمية الماركة). الإضاءة الخافتة، الستائر المغلقة. بقي شيء واحد "التشييك" على surround system. حسناً. فليسكت الجميع، بدأ المسلسل.
العينان مفتوحتان تماماً، لا أريد تفويت حركة الذبابة التي دخلت فجأة في الكادر. حقا يا لها من قصة. لا اذكر جيداً كم مرة بكيت او شهقت او ضحكت على مشهد ما ولكني حتما أذكر أنني قمت بمشاهدة الموسم الأول كاملا من هذا المسلسل، أي 13 حلقة متتالية في الليلة نفسها.
الآن أتذكر شعوري بالندم حين رفضت عرض صديقي إعطائي الموسم الثاني وقلت له: "دعني أنتهي من الموسم الأول، أوّلاً". ولست بحاجة طبعاً ان اشير الى عدد المرات التي قمت خلالها بتحضير الفوشار كي يكفي حتى الساعة الرابعة فجراً، وأنا أقول في نفسي في كل مرة: "تباًّ لهذا المسلسل ولتلك الفكرة الرائعة".
نسيت أن أشير الى أنه مسلسل أميركي. كنت أتمنى لو مررت بالتجربة نفسها مع مسلسل لبناني. لكن للأسف لم أصل الى هذا الحد حتى اليوم. وهو أمر شاق. لأنني لا أنفك أفكر لماذا؟ ما الذي ينقص؟. ويبدو أنني لست الوحيدة التي تسأل. طبعاً، فهو موضوع أتخم صفحات الفايسبوك ومواقع التواصل الإجتماعي في الآونة الأخيرة. ولأن لكل مسلسل صفحة خاصة. ولكل ممثل صفحة خاصة. ولكل مخرج وكل منتج وكل أكبر وأصغر عامل ومساهم في هذا العمل الدرامي او ذاك صفحة خاصة أيضاً، تزدحم الآراء والنقاشات حول الدراما اللبنانية ونقاط قوّتها (القليلة) ونقاط ضعفها وما الى ذلك. فمنهم من يحني القبعة للجهود المبذولة وآخرون يوجهون نقدهم اللاذع فيصفونها بكلمة واحدة "سخيفة"، "مصطنعة"، "مضجرة"، "غير متماسكة" أي فلتانة بالعامية، ويسألون "أين الدراما في لبنان؟" او "حقا لا يوجد لدينا دراما" أو "إن تلك الدراما ليست لبنانية"، أو "هاي دراما او شعر؟" ويقول أحدهم بسخرية "بما ان الدراما هي تعبير عن الواقع فهذا يعني انه لا يوجد فقراء في لبنان لأنه لا يوجد سوى الأغنياء في المسلسلات اللبنانية" ومنهم من يسترسل إما بالتبجيل و"التبخير" وإما بالتكسير و"التفخيت". ولكن "بدون زعل". ولأن عين اللبناني بصيرة خاصة في كل ما هو إنتاج محلّي وصناعة لبنانية، دعونا لا نهمل هذه الآراء. آراء من يطلق عليهم لقب "الجمهور المستهدف"، هل ستؤخذ بعين الإعتبار؟.
قال أحد الأصدقاء لي يوماً ان تمزيق الأوراق في حياة الكاتب ضرورة قصوى. فدونها لا يمكن ان تلد أوراقا أخرى أكثر نضجا وقوة. وذلك ليس بالقول الغريب. فلطالما ردّدته معلّمة اللغة العربية على مسامعنا "أكتبوا الموضوع على الخرطوش ومن ثم بيّضوه". وأتذكر كم كان صوتها مزعجاً. ولكنها محقّة.
أوراق الخرطوش تلك هي الأساس الذي تبنى عليه سيناريوهات متينة. فلا تخافوا من تمزيق أوراقكم، ومن إلغاء مشاهد كاملة لا معنى لها، ومن الإستغناء عن شخصيات لا تخدم الفكرة، بعيدة عن واقعنا او لا تشبهه، ومن إستبعاد حوار سطحيّ ومكرّر دون جدوى، ومن نسف عبارات نحويّة لا يقبلها منطق اللغة العاميّة، تحشرونها هناك لماذا؟.
وكي لا نكون ظالمين، لقد "فلتت" بعض من الدراما اللبنانية من فخ تسطيح وتسخيف فكر ووعي المشاهد، ولكن تبقى تلك بعضاً، ونحن نريد الكلّ وليس البعض. أما لماذا البعض فقط "فلت"؟. أتذكرون تلك الذبابة التي دخلت فجأة في الكادر؟ نعم، هذه هي. إنها السبب. الذبابة في المسلسل الأميركي، عادة، لا يمكن ان تدخل فجأة في الكادر. لا يمكن ان تكون بلا معنى. وإن كانت بلا معنى فلا يمكن ان تجدها هناك. كل حركة وكل همسة وكل كلمة وعبارة وتعبير جسدي او غير جسدي، كل شخصية إنسان كانت ام حيوان لها هدف في المسلسل الأميركي.
طبعا ينسحب ذلك على المسلسلات من الجنسيات المختلفة غير الأميركية. حبذا لو نستطيع تقديم الشيء نفسه في "دراماتنا" اللبنانية. فكثرة الإنتاج الذي نشهده حاليا لا تعني أبدا جودة النوعية. مزّقوا أوراقكم مرة ومرتين وثلاث. فلا عيب في ذلك.
 

السابق
المعهد العالي للدكتوراه يطلق 772 طالباً في الماستر البحثي
التالي
مؤخرات للايجار