إمرار التمويل: مرسوم أم خلطة أكثرية جديـدة عابرة؟

 باستثناء حزب الله، قال الأفرقاء كلمتهم في تمويل المحكمة الدولية. مَن معه ومَن ضده. كذلك رئيس الحكومة أعلن مراراً أنه سيتعاون مع المحكمة ويموّلها. لكن لا أحد يفصح كيف سيصير إلى إقرار التمويل، ومن أي بيت يخرج. مجلس الوزراء أم مجلس النواب أم بمرسوم؟

هل يتحمّل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تداعيات عدم تمويل المحكمة الدولية بكل الدلالة السياسية ـــــ لا المالية ـــــ التي ينطوي عليها بإزاء المجتمع الدولي والشارع السنّي؟
وهل يتحمّل الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله تمويل المحكمة بكل الدلالة السياسية نفسها ـــــ لا المالية ـــــ فيحرج نفسه، ولا يسعه القول بعد ذلك إن المحكمة إسرائيلية ـــــ أميركية؟
كلا الرجلين أمام استحقاق واحد، مزدوج بخياره، ومتناقض بنتائجه. الأول رئيس الحكومة، والثاني زعيم الغالبيتين الحكومية والنيابية.
يلقي تسديد لبنان حصته في الموازنة السنوية للمحكمة الدولية بثقله عليهما، وكانا قد حدّدا سلفاً الوجهة التي يريدان سلوكها حيال تسديد الحصة: ميقاتي يصرّ على التعاون مع الأمم المتحدة، ويتمسّك بالمحكمة وبالتزام لبنان التعهّدات الدولية التي أبرمتها ثلاث حكومات سبقت حكومته. ونصر الله لا يعترف بالمحكمة، ويعدّها مؤامرة غربية تستهدف المقاومة وسلاحها، وكان قد وصف في أوقات متفاوتة مَن يتعاون معها كمَن يتعاون مع المتواطئين على المقاومة والضالعين مع إسرائيل.
هكذا كلاهما، الحليفان في الحكومة وفي الغالبية النيابية، أمام مفترق خطر هو استحقاق مغزى تحالفهما وجدواه. لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا يسعه أن يكون في الحكم بمفرده من دونه، ولا يرغب حتماً في الانقلاب عليه.
يضع ذلك تمويل المحكمة أمام بضعة احتمالات تتداخل فيها المواقف وتتناقض في الوقت نفسه:
1 ـــــ الكلام المتداول عن تجنّب الخوض في تمويل المحكمة في مجلسي الوزراء والنواب، والاكتفاء بمرسوم يوقعه رئيسا الجمهورية والحكومة والوزراء المختصون. لكن المشكلة تكمن في مدى استعداد وزير العدل شكيب قرطباوي لطرح اقتراح مرسوم بذلك، في وقت يرفض فيه تكتل التغيير والإصلاح، ورئيسه الرئيس ميشال عون، التمويل ويتقدّم في موقفه هذا على حزب الله الذي لا يزال يتفادى، حتى الآن على الأقل، إعلان رفضه التمويل أو القبول به على مضض. ويدعم تيّار المستقبل وقوى 14 آذار هذا الحلّ، ويقولان إن موازنة وزارة العدل تلحظ مبالغ مخصصة للتمويل، ويعزّزان حجّتهما هذه في ظلّ عدم إقرار الموازنة بالاعتماد على القاعدة الاثني عشرية تبعاً لقواعد الإنفاق التي لحظتها آخر موازنة كان قد أقرّها مجلس النواب. وعلى غرار تسديد لبنان حصته عن سنتي 2009 و 2010، يمكن بالطريقة نفسها تمويل حصتي سنتي 2011 و 2012 بسلفة خزينة.
وباستثناء قرطباوي، فإن الأفرقاء الآخرين المعنيين بتوقيع المرسوم، وهم رئيس الجمهورية ميشال سليمان وميقاتي ووزير المال محمد الصفدي، موافقون على أي آلية قانونية تفضي إلى تأكيد لبنان استمرار تعاونه مع المحكمة، واحترامه تعهّداته الدولية، الأمر الذي يحيل المسألة سياسية بحتة، ويضع المشكلة والحلّ بين يدي عون أولاً وأخيراً لوضع المرسوم.
2 ـــــ تبعاً لتوازن القوى الذي يسيطر على مجلسي الوزراء والنواب، فإن النتيجة المتوقعة من خوض أحدهما في التمويل متناقضة مع الآخر. في مجلس الوزراء، وحتى إشعار آخر، لن يوافق حزب الله وحلفاؤه على التمويل، ما يسقط القرار في حال طرحه على التصويت، لكون قوى 8 آذار تقبض على الأكثرية المطلقة في مجلس الوزراء التي يتطلّبها إقرار التمويل. فيخسر سليمان وميقاتي ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط معركتهم فيه. إذ ذاك ستقوّم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الموقف على أن الحكومة اللبنانية هي التي ترفض التعاون، وتحجب تمويل المحكمة، من دون الأخذ في الاعتبار آلية الاحتكام إلى التصويت والأصول الدستورية، ويُسهَب في وصفها بأنها حكومة حزب الله.
لكن النتيجة ليست كذلك في مجلس النواب، لأن الغالبية التي تقبض على الأكثرية المطلقة ليست نفسها. ليس لرئيس الجمهورية نواب، إلا أن كتلتي نواب طرابلس (وميقاتي والصفدي والوزير أحمد كرامي) ونواب جنبلاط ترجحان مع نواب قوى 14 آذار الكفة لمصلحة التمويل، بتكوين غالبية نيابية جديدة عابرة حيال هذا الموضوع، سواء بطرح اقتراح قانون معجل مكرّر بذلك أو طرح اقتراح قانون بإضافة بند إلى مشروع قانون موازنة عام 2012 عند مناقشته في البرلمان يتضمّن تمويل المحكمة. وبحسب المطلعين على موقف ميقاتي، فهو يؤكد أن حكومته ستحيل مشروع قانون الموازنة على المجلس قبل 15 تشرين الأول المقبل، موعد بدء العقد العادي الثاني، التزاماً منها بالأصول والمواعيد الدستورية لمناقشة الموازنة والتصويت عليها.
3 ـــــ قدّم رئيس الحكومة في جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت في 7 أيلول الماضي، وناقشت خطة الكهرباء نموذجاً للطريقة التي يريد اتباعها على رأس الحكومة في اتخاذ القرارات التي يعتقد أنها الأكثر ملاءمة لخياراته. يومذاك، بعد احتدام المناقشة بينه وبين وزير الطاقة والمياه جبران باسيل، ضرب بيده على الطاولة ثلاث مرات وأصرّ على موقفه، تقسيط المبالغ المخصصة للإنفاق على الخطة لأربع سنوات، ووقف وقرّر الانسحاب من الجلسة قبل أن يلحق به وزراء ويثنوه عن المغادرة، فخرج مجلس الوزراء بالموافقة على اقتراح ميقاتي بالتجزئة. لفتت هذه الحدّة رئيس الجمهورية الذي فاجأته نبرة رئيس الحكومة بتمسّكه بالخطة، وفي الوقت نفسه تثبيت رأيه والحؤول دون تغليب وجهة نظر باسيل وتكتل التغيير والإصلاح عليه.
كانت كلمة السرّ التي التقط رئيس الحكومة إشاراتها باكراً، أن حزب الله تمنى على وزيري النائب سليمان فرنجية ووزيري حزب الطاشناق عدم الانسحاب من الجلسة في حال عزم وزراء التيار الوطني الحرّ عليه، الأمر الذي آل إلى ارتفاع نبرة ميقاتي الذي أدرك أيضاً أن لا خطر على نصاب مجلس الوزراء، وأن المبادرة في يده بدعم غير معلن من حزب الله الذي تفادى ولا يزال، منذ تأليف الحكومة، إحراج رئيسها أو التضييق عليه. وضع ميقاتي تطيير النصاب بين يديه بتهديده بالانسحاب، وهو سبب كاف كي يفرط عقد الجلسة عند مغادرة رئيسها. كان رئيس الجمهورية يدعم رئيس الحكومة في تصرّفه وطريقة إخراجه خطة الكهرباء، ويحافظ في الوقت ذاته على توازن القوى داخل السلطة الإجرائية.
ما صحّ يومذاك بات يصلح في أي وقت في مسار مناقشات مجلس الوزراء، باحتكام رئيس الحكومة إلى صلاحياته الدستورية وخياراته السياسية. ومنذ مرحلة تأليف الحكومة إلى اليوم، لم يتوقف عن تأكيد التزامه التعاون مع المحكمة والأمم المتحدة واحترام القرارات الدولية، وأبلغ تكراراً إلى سفراء الدول النافذة أن أفعال حكومته ستترجم جدّية خياراتها.
4 ـــــ تحت سقف التزام سليمان وميقاتي للمجتمع الدولي تمويل المحكمة، فإن إمراره في مجلس النواب يمسي أحد الخيارات الأسهل عبر تكوين أكثرية جديدة موقتة. يُسجّل ذلك سابقة غير مألوفة في الحياة الدستورية والبرلمانية اللبنانية تمثّل تحايلاً على الأكثرية الواقعية التي تجسّدها قوى 8 آذار، وقد باتت عملياً غالبية وهمية غير ذات جدوى، وأقرب إلى نمر من ورق. تتلاعب بها كتلتا ميقاتي وجنبلاط، فتتحوّل أكثرية حقيقية عندما تتفاهمان معها على مشاريع أو قرارات، وتعود أقلية عندما تفترقان عنها. وهو ما يمثّله تباعد موقفي ميقاتي وجنبلاط مع قوى 8 آذار حيال تمويل المحكمة، اللذين يؤيدانه بلا شروط.
ولا يعني ذلك سوى أن كل ما قد يتعثّر الاتفاق عليه في مجلس الوزراء يسهل إمراره في مجلس النواب، من خلال خلطة غالبية بديلة عابرة بين ميقاتي وجنبلاط وقوى 14 آذار تبعاً للتقاطع الذي تجتمع عنده مواقف هذه الأطراف وخياراتها. 

السابق
عرّاب الجثث
التالي
لاهاي مهبط النظام السوري