معركة الصلبان تستعر والآتي أعظم

لا يكفّ الخطاب السياسي عن الانحدار. من المحكمة الدولية فخطة الكهرباء، وصولاً إلى لاسا ثم إضاءة الصلبان. في ظل التحولات في المنطقة، لا يجد السياسيون هنا غير الصلبان، فيما لا يظهر من كل حكام الدولة وزعمائها وسياسييها إلا البطريرك الماروني بشارة الراعي. يصول الأخير في المناطق ويجول على صفحات الصحف كأنه وحده يمتلك «نعمة النطق»

مرتين سمع اللبنانيون خلال شهر واحد بالنائب سامر سعادة. في المرة الأولى سمعوا عنه أنه يتزعم موكب «جبّالات» إلى بلدته البترونية شبطين ليضمن صب أحد مرافقيه طبقة إضافية فوق منزله. وفي المرة الثانية سمعوه يدافع عن حقه في إزالة عمود كهرباء نصب في أرضه من دون موافقته. في المرتين، تظهر سهولة النجومية: يضع خالد ضاهر خبراته بتصرف سامر سعادة.
بدأت قصة سعادة الأخيرة قبل بضعة أسابيع، كان الوزيران جبران باسيل وفادي عبود يرافقان العماد ميشال عون في مسير من فقرا في أعالي كسروان إلى أطراف بسكنتا في أعالي المتن الشمالي. في منطقة «باكيش»، ظلل السائرين صليب عملاق، أُطلق عليه العام الماضي حين أضيء: «صليب كل الشعوب». أثناء تأمله الصليب الضخم، لم يستطع باسيل أن يمنع نفسه من التفكير كيف كان سيدخل التاريخ المسيحي ومن بوابة غينيس تحديداً لو أدى دوره كاملاً كمسيحيّ مشرقيّ، وأضاء بنفسه «صليب كل الشعوب». ضيّع باسيل فرصة، لكنها مجرد معركة في حرب مستمرة.
لم يفكر باسيل يومها كم مسكناً كان يمكن الكنيسة المارونية أن تشيد لعائلات مسيحية مشردة بفضل الـ500 متر مكعب من الإسمنت والـ170 طناً من الفولاذ والخمسة أطنان من الحديد التي استخدمتها لبناء قاعدة الصليب. فكر في شيء واحد: عيد الصليب المصادف في 14 أيلول قريب ولا بدّ من التعويض. هكذا في وقت كان فيه حزبا الكتائب اللبنانية والقوات يعدان لإحياء ذكرى اغتيال الرئيس بشير الجميل في 14 أيلول، كان العونيون يعدون الكهرباء لإضاءة بعض الصلبان. هموم الأحزاب «المسيحية» في لبنان تواكب صراحة هموم شعوب المنطقة.
في المتن، تكفّل النائب نبيل نقولا بالموضوع، لم يترك تلة من دون صليب ينيرها. ليقف في النهاية هو على تلة مزهواً بأعماله. يمكنه الآن أن يستجمع كل أنفاسه للرد على النائب وليد جنبلاط متوعداً: «تسييل أملاك الكنيسة خط أحمر» و… «ليس لأحد الحق في أن يقول للكنيسة ماذا تفعل». ينسى نقولا أنه كان قبل أشهر فقط يقول للكنيسة إن عليها وضع أملاكها وثرواتها بتصرف أهلها (تسييل أملاك الكنيسة).
في كسروان، حصل الإشكال بين باسيل وسعادة، الذي بات خلال يومين فقط شهيراً. لكن بعيداً عن تفاصيل الإشكال، تفيد قراءة مواقف المتنازعين لرؤية أين يبيت بعض السياسيين، أو الدرك الذي بلغته الحياة السياسية.. 
يسأل نائب الأمة وزيرها: من أنت لتزايد على «مسيحيتنا الروحية والسياسية؟». عند سعادة مسيحية روحية ومسيحية سياسية إذاً. ويكمل النائب عن المقعد الماروني في طرابس مسائلاً التيار الوطني الحر: «أين أنت أيها التيار لا تحمي الصليب في منطقة الجديدة من اعتداءات الرويسات». الرويسات كلها تعتدي بنظر سعادة على «الصليب في منطقة الجديدة»: دقّوا النفير. يتابع سعادة: «أين أنت أيها التيار من التعديات اليومية على صليب لاسا؟». وهاتوا طبول الحرب. اقرعوا اقرعوا، هذا باسيل الآن يقول: «هذه الصلبان ستبقى موجودة على جبالنا، وسترفع على كل جبل من جبالنا». الكهرباء مقطوعة ثلثي النهار ووزير الطاقة يصرخ: «نريد أن يبقى هذا الصليب نهاراً وليلاً مضاءً، وأن تملأ الصلبان الجبال كافة». يتوعد باسيل مهدداً: «لا أحد بإمكانه أن ينزع صليبنا أو أن يقصه أو ينشره أو يشطبه»، ويضيف: «صليبنا كما هو، إما أن يكون صليب سلام، أو لا يكون أبداً صليب حرب وقتل». الكهرباء مقطوعة معظم أوقات الليل والنهار عن عكار والضنية وبعلبك والهرمل وجزين والمتن وكسروان، لكن باسيل يحذر: «لا يمكن أحداً أن يطفئ الكهرباء عن صلباننا». تخيلوا وزير الطاقة يقول: «إذا لم تصل الكهرباء عبر الطرق التقليدية، أي الأسلاك، إلى هذا الصليب، فستصل عبر الشمس». كان لا بد أن يقدم أهالي البلدة للوزير بعد كل كلامه المشوّق على الصليب لوحة تذكارية تمثل الصليب موضوع السجال. سيضيء باسيل، من دون شك، اللوحة في مكتبه. يعلق أحد العونيين على إحدى الشاشات: «أيها الناخبون المسيحيون الكرام، وخصوصاً في البترون، تذكروا هذا النائب المسيحي الذي اعتبر أن متر أرضه أو أرض أحد أقاربه أهم من إضاءة صليب مرفوع فوق قمة جبل». تجدر الإشارة هنا إلى أن صليب باسيل الكسرواني رفع عام 1951، ووفقاً لسعادة أُنير عام 1994 بجهود الوزير الراحل إلياس حبيقة. فحبيقة كان أيضاً يحب إنارة الصلبان.

وفيما كان ابنا البترون يتقاتلان في كسروان، كانت رابطة سيدة إيليج تحيي «ذكرى ارتفاع الصليب» في كنيسة سيدة إيليج في بلدة ميفوق التي تطلق عليها الرابطة اسم «سلطانة الشهداء». هنا يخطب مقاتل قواتي بالحشد، قائلاً: «أيها الأهل والرفاق، إننا قادرون على الصمود والبقاء والشهادة ليسوع المسيح في هذه البقعة من الأرض، إن نحن آمنا وتعلمنا وتذكرنا وصبرنا. احملوا صليب يسوع وكونوا في الصمود، كونوا في العنفوان والبطولة والكرامة. لن تقوى علينا أبواب الجحيم». بالقرب من هؤلاء، في قرية بترونية أخرى، يقفز النائب أنطوان زهرا مع تصريح: «أيها الأقزام المتطاولون، أيها المشطوبون من التاريخ والجغرافيا، لن يدخلكم المال الذي توسختم به واستزلمتم له إلى تاريخ المسيحيين في لبنان والشرق. كيف تقولون إن الصليب المشطوب صليب حرب. الصليب المشطوب كان علامة التجذر في أرض المشرق، (يأخذ نفساً ويتابع) علامة المقاومة المسيحية التي لا تخضع ولا تخاف ولا تحتمي إلا بالله».

تذهب الأمور أبعد من ذلك. كل ما يحصل في المنطقة في كف، وقضية لاسا في الكف الآخر بالنسبة إلى «مسيحيي 14 آذار». يكرّر تلفزيون المرّ عرض التقرير عن «اعتصام المجتمع المدني» في بلدة لاسا لمناسبة عيد الصليب. يصبح «المجتمع المدني» مسيحياً بامتياز هنا وكارهاً بامتياز أيضاً لحزب الله ومن يشدّ على مشدّه. يترك المجتمع المدني كل كنائس العالم ويأتي ليصلي في كنيسة لاسا المهجورة. تمسك معدّة التقرير باب الكنيسة وتهزه، تود الدخول ولكنه مقفل. هي لا تقولها، لكن التقرير يقولها: حزب الله يمنعنا، وفي عيد الصليب بالتحديد، من الصلاة في كنائسنا. يُبكي؟ يبكي أكثر التقرير بشأن الـ«BIG SALE». هنا أيضاً الصليب هو القضية. فلتذهب عائلات الموظفين الأربعين الذين كانوا يعملون في ذلك المتجر إلى الجحيم: لن يعاود فتح أبوابه قريباً. ستطلب قوى 14 آذار في الانتخابات النيابية المقبلة من الأنصار مناصرتها، لا لشيء إلا لمنع «التجار الشيعة من بيع خفّ عليه إشارة صليب». تبحثون عن تحريض إضافيّ؟ زوروا بلدة الحدث، قرر رئيس المجلس البلدي هناك تنظيم بيع الكحول قليلاً في بلدته، فحُوِّل إلى أجير عند حزب الله يمسّ القيم المسيحية.

تزداد الأزمة خطورة. يكاد أن يختصرها إيلي الفرزلي الجديد. فحين يود الأخير الدفاع عن قانونه الانتخابيّ، يخبرك عن عروبيّة جده وعن قتال والده في فلسطين وإطلاقه الرصاص على صورة الرئيس كميل شمعون في زحلة، عن جرحه وسمير جعجع، وعن المارونية السياسية التي حاولت، لأنهم عروبيون، طردهم من البقاع. يخبرك كل ذلك ثم يذكرك بهتاف وليد جنبلاط: «لا أريد أن أذوب بالمساحات الكبرى». إذاً؟ على من تقرأ مزاميرك العلمانية والوطنية والعروبية يا داوود؟ يسألك الفرزلي. مردداً أن على كل طائفة أن تنتخب نوابها.
تزداد النجومية السياسية سهولة إذاً. ليس على الراغبين في خطف بعض الأضواء إلا إضاءة صليب أو قطع الكهرباء عن صليب آخر. وفي اليوم التالي ستصبح بطلاً في معسكرك، وسيكتشفك ناخبوك 

السابق
بيان اتّهامي للمفتي..
التالي
النابلسي:اسرائيل تستعد لمواجهة لبنان في ساعة انشغال العالم بازمات اخرى