الراعي في مواجهة الفتنة

التفاعلات التي أثارتها مواقف البطريرك بشارة الراعي تحمل معها مؤشرات الى مرحلة جديدة ومهمة في تاريخ الكنيسة المارونية ودورها اللبناني والاقليمي، ولا ينتقص من قيمة التحول الذي يقوده البطريرك الراعي حجم الهجمات السياسية والاعلامية التي تناولته، بدءاً من باريس وصولا الى معراب، فالذين تصدوا للبطريرك هم المنخرطون في مشروع التفتيت والتقسيم الذي حذّر الراعي منه، ومن المخاطر الوجودية التي يحملها على مسيحيي المشرق.

يقول العارفون في شؤون الكنيسة المارونية إن جذر خطاب البطريرك الراعي يمتد الى موقف الفاتيكان الاستراتيجي الذي نشأ عن حقيقة تهجير المسيحيين واستهدافهم بعد احتلال العراق، فقد لمس الكرسي البابوي وكرادلة الكنيسة بالوقائع، ان خطة الهيمنة الغربية على المنطقة تطلق مجموعة القوى والحركات الطائفية التي تؤسس مشاريعها على اقتلاع المسيحيين.

وقد وردت الى الفاتيكان تقارير عديدة حول تسهيلات أميركية ومشاركة "اسرائيلية" في عمليات الاعتداء والتفجير التي استهدفت الكنائس المسيحية في العراق، وحول أعمال التهجير المنظم ضدهم، ولاحظ الكثير من أحبار المشرق من مختلف الكنائس في نقاشاتهم مع دولة الفاتيكان، أن ما سُمّي بالفوضى الخلاقة يطلق موجة من التطرف في المنطقة تؤدي الى تفعيل قوى التيارات التكفيرية، حيث أكدت جميع التقارير والمعلومات على أهمية دور سورية في احتضان المسيحيين الذين هُجِّروا من العراق، وعلى اعتبار الدولة الوطنية العلمانية القائمة في دمشق حضناً رحباً للمسيحية بجميع كنائسها، وكذلك توقفت نقاشات الفاتيكان في إعادة تقييم دور الكنيسة في لبنان، عند الطروحات التي تقدم بها العماد ميشال عون القائد الماروني الأبرز بشأن العلاقة مع سورية وأهميتها بالنسبة لمسيحيي المشرق، وهذا ما حدا بالفاتيكان وقبل انتخاب البطريرك بشارة الراعي بطريركاً الى التأكيد على ضرورة أن تخرج بكركي من الدائرة الضيقة المحكومة بحساسيات العلاقة مع سورية، وأن تكفّ عن التصرف كمنبر متحزب في الصراع السياسي داخل الطائفة المارونية.

التوجه الذي حمله البطريرك الراعي يشكل استمراراً لدوره المعروف في بلورة مضمون الارشاد الرسولي حول لبنان، وتحويله الى حركى رعوية في صفوف المسيحيين، عبر التشديد على مبدأ الشراكة في قضايا الوطن والانفتاح والوحدة الوطنية، وكذلك يرى المتابعون، أن مواقف البطريرك الراعي، تأتي ثمرة لقراءة منهجية ومبدئية تتوخى مصلحة المسيحيين وحماية وجودهم من خلال الخيارات الوطنية والاقليمية التي تتصدى لمشاريع التفتيت والتقسيم، وتلتزم مبادىء الاستقلال والسيادة وتحتضن القضايا الوطنية في عمق ثقافتها، لأن في ذلك ما يحمي الوجود المسيحي في لبنان من إمكانية توظيفه في خطط الآخرين، وتعريض المسيحيين في ما بعد الى دفع كلفة المواجهات التي تقودها القوى الخارجية، ومن ثم المساومة عليهم عندما يحين زمن الصفقات.

مواقف البطريرك كما يقول المتابعون حول الوضع السوري، مبنية على معلومات ووقائع تتعلق بمسار الاحداث وبمحاولة إثارة الفتنة الطائفية التي حملتها شعارات تدعو علناً الى ترحيل المسيحيين، وقد رفعتها تنظيمات الاخوان المسلمين على الأرض، بينما لوّح أنصار تيار التكفير "بسواطيرهم، في وجه أبناء الطوائف الأخرى، وكذلك فقد أتيح للبطريرك من خلال المتابعة الحثيثة للتطورات السورية، التعرف الى مضمون الاصلاحات والتغييرات الجارية بكل جدية، بينما تمثل في نظر المسيحيين السوريين تجسيداً لمصداقية الرئيس بشار الأسد التي يثقون بها، وهو رئيس الدولة العلمانية الوحيدة في المنطقة التي بنيت على رفض التمييز الديني والطائفي.

أما بشأن المقاومة، فمخاطبة البطريرك للغرب بالسؤال عن إلزام "إسرائيل" تنفيذ القرارات الدولية قبل طرح موضوع سلاح المقاومة، شكل عنصر الاحراج الرئيسي لحكومة ساركوزي التي تجعل من دورها في المنطقة متراساً لـ "اسرائيل" ومصالحها.
ردود الفعل التي أعقبت كلام البطريرك الراعي، زادته ثقة بصحة الخيار الذي يدعو اليه، لأنها كشفت أنه أصاب الآخرين في نقاط ضعفهم، وأزاحت القناع عن تحركاتهم ومواقفهم وتجلي حقيقة الصورة أمام اللبنانيين، وما لقيه البطريرك في منطقة البقاع الشمالي، وما ألقاه من كلمات شدّد فيها على خياراته المبدئية هي في اعتقاد الكثيرين بداية لمرحلة جديدة في لبنان والمنطقة، تنقل الكنيسة المارونية الى موقع المبادر في تثبيت منطق الوحدة الوطنية والشراكة والاستقرار في مجابهة عواصف التقسيم والعصبيات الفالتة التي يحركها الغرب لحماية "اسرائيل" بعد الخروج الاميركي من العراق. 

السابق
السلاح ليس خيار المسيحي اللبناني..
التالي
اين السنيورة؟