الدولة الفلسطينية

كان متواضعاً على عادته الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبيل توجّهه إلى طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. قال إنّها الخطوة الوحيدة البديلة عن تعنّت حكومة نتنياهو، وعدم التقدّم في المفاوضات، وقال بعد ذلك إنّه يتوقع أياماً صعبة. وهو محق تماماً.
والحال هو أنّ الخيارات الفلسطينية الرسميّة منذ انطلاق مفاوضات السلام في مدريد العام 1990 حتى يومنا هذا، ما كانت إلاّ تعبيراً أميناً عن واقع حال موازين القوى في المنطقة.. ثم انهيار المعسكر الاشتراكي وانكسار توازن كان البعض يعوّل عليه ويستند إليه لمحاولة مواجهة طغيان الاحتلال وسياساته وممارساته.

لا الواقع العربي أعان الفلسطيني على البحث عن بديل "مقنع" من المفاوضات، ولا الواقع الدولي كان في وارد الانتباه، ولو متأخراً، إلى الأكلاف الكبيرة التي يُخلّفها استمرار النزاع من دون حل.. ولا شيء بعد ذلك، كان يدفع باتجاه إجبار الإسرائيليين على الرضوخ لقرارات الأمم المتحدة، أو حتى لحسابات أو مصالح الغرب الداعم لهم بعد انتهاء الحرب الباردة.. والأكثر مدعاة للتحدّي كان الواقع الفلسطيني الداخلي نفسه. بحيث انّ البدائل التي كانت تطلّ برأسها من نوافذ الممانعة والقتال بالسلاح، إنّما كانت مأسورة بدورها، بالحقائق والوقائع البعيدة عن صخب النشيد وهدير الشعار، عدا عن أنّها حملت في ذاتها نوازع "تجارية" مماثلة لتلك التي شهدتها المنطقة العربية على مرّ تاريخ هذا النزاع.
الإقفال اكتمل في وجه السلطة. مكتسبات أوسلو جرى تحجيمها بتواطؤ غريب بين أعداء مفترضين. راح ياسر عرفات حتى النهاية في خياراته ودفع ثمن رفضه تسوية ناقصة. ضغط الأميركيون والأوروبيون باتجاه إجراء انتخابات تشريعية فلسطينية، فقطفت "حماس" ثمار تشتّت أصوات أهل "فتح" وحلفائها وسيطرت على القطاع ورمت المفتاح في وجه الجميع. إمارة على طريق الاكتمال. والانتخابات لا تصلح إلاّ لمرّة واحدة. تماماً مثل عود الكبريت. السلطة مطلقة والباب مفتوح لمد نفوذ إيراني سوري.. ثم فوق كل ذلك لفتح أبواب حرب أهلية حقيقية للمرّة الأولى في تاريخ الشعب الفلسطيني.

مسار الأمور راهناً يبدو أهدأ رغم الضجيج الخاص بخطوة إعلان الدولة. ويمكن الافتراض أنّ أوّل مَن حَصَدَ نتائج التغيير في مصر والثورة في سوريا هم الفلسطينيون. التفاصيل كثيرة لكن يبقى أهمّها، أنّ القبضة انحلّت في المكانين. ابتعدت "حماس" عن حسابات نظام سوريا، واقتربت السلطة و"فتح" من حسابات ما بعد نظام مبارك، وصار وارداً افتراض عودة متقاتلي الأمس إلى لقاء جدّي.
.. يُقاتل الرئيس عباس اليوم على طريقته. يذهب في تحدّي تعنّت إسرائيل حتى النهاية، ويضع الإدارة الأميركية أمام مسؤولياتها وأمام تردّدها (؟) في فرض شروط التسوية على حكومة تل أبيب. ويضع الغرب في الإجمال أمام معادلة أثيرة هي الإقرار بالحق الفلسطيني في موازاة الإقرار بالتحرّكات الديموقراطية في الشارع العربي، والبحث من خلالها عن الحرّية والكرامة وحقوق الإنسان.
متواضع وشجاع الرئيس الفلسطيني. يحدّد بواقعية ما له وما عليه ويتوقّع "أياماً صعبة"، هي بالتأكيد ستكون نتيجة لوقوفه في وجه الرفض الإسرائيلي والأميركي لخطوة إعلان الدولة.
  

السابق
البناء: كلمة لسليمان أمام الجمعية العمومية اليوم قبل ترؤسه مجلس الأمن غداً
التالي
خلاف حاد