أحمد الحريري:رئيس بدل من ضائع

افتتح الأمين العام لتيار المستقبل، أحمد الحريري، طريق بريصا ـ مربّين في الضنيّة، يوم الجمعة الماضي. أكدت الزيارة قرب أحمد من الناس وتفهّمه لأوضاعهم وحاجاتهم. المستقبليون في الشمال متفائلون بالأوضاع السياسية وبقدرة أحمد على إدارة التنظيم هناك… وأعينهم لا تزيح عن الانتخابات في طرابلس

يجلس أحمد الحريري في المقعد الأمامي من السيارة، الرباعية الدفع، تحضيراً لمهمّة سياسية في الضنية. الطريق ستكون طويلة، لذا أحضر شاحنَي جهازَيه الخلويين. لا يتخلّى أحمد عن «البلاك بيري» طوال الرحلة، إما للاتصال بأحدهم أو لكتابة بعض الرسائل. يداه لا تتوقفان عن الطباعة على أحرف تلك الآلة، حتى حين يكون في نقاش حام مع المسؤول الإعلامي في تيار المستقبل، أيمن جزيني. بين «بي بي أم» وآخر، يتحدث أحمد عن نفسه، عن عجزه عن النوم في صيدا لأنه اعتاد على ضجيج سيارات المدينة. وأنّ هذه العادة اكتسبها من أيام الجامعة حين اعتاد في تلك الفترة على مصباح منارة بيروت الذي كان يخترق غرفة نومه أكثر من مرّتين في الدقيقة الواحدة. ينطلق الموكب الصغير من الرملة البيضاء باتجاه المدخل الشمالي لبيروت. هو موكب متواضع يتألف من سيارتي جيب وثالثة من نوع مرسيدس، يتنقل بهدوء ورويّة في الزحمة التي تسمح لأحمد بانتقاد السائقين من خلال تعليقاته المتلاحقة على أداء سائقه وغيره من «الجيران» في زحمة الدورة والكرنتينا وبرج حمود.

يستحقّ أحمد الحريري عن جدارة لقب «رئيس» تيار المستقبل، على الأقل مؤقتاً. ومن يرفض من المستقبليين في العلن منحه هذه الصفة، يقرّ في السرّ بأنّ أحمد هو «الوكيل» بانتظار عودة «الأصيل». قد يرفض البعض أحمد كرئيس لأدائه الشبابي البعيد عن تعقيدات السياسيين، ربما لكونهم معتادين على مسؤولين متكلّفين في ردود أفعالهم وتنقلاتهم وتعاونهم مع الناس. أما أحمد فلا يضجّ الشوارع بأصوات موكبه ولا يجلس في مكتب فخم بانتظار اتصالات من هم أعلى منه شأناً. بل على العكس، نجح هو في تخطي بعض الحواجز التي بناها من سبقه في قيادة المستقبل وتنظيمه، إذ عندما يلتقي الناس، يضع جانباً كل ما يميّزه عنهم: المال، الموقع واسم عائلته. وعكس ما يفعله من في موقعه، يتخلى عن مرافقيه وسط الجمهور ويستمع إليه بكل رحابة صدر، واعداً بالخير. قد يكون هذا الأمر مفهوماً في مدينته صيدا، إلا أنّ هذا الأمر يمتد معه أينما ذهب.
مثلاً في محل «ستاربكس» في جونية، توقف موكب الحريري وترجّل الأخير مع شابين أو ثلاثة. كان قد استشار من في السيارة بضرورة تناول فنجان قهوة، وخصوصاً أنّ آثار قلّة النوم كانت بادية على جزيني. وقف أحمد مع غيره من الزبائن في صف الانتظار، دردش مع زبون عن وضع التيار في أوستراليا، مقرّ إقامة الأخير، سمع من آخر عن أوضاع 14 آذار في المنطقة. تصرّف كأنه في إحدى حارات صيدا: «أهلاً حبيبي، موفّق».
يستمرّ المشوار باتجاه الشمال. يتناول أحمد أكثر من موضوع، وأهمها عن الصدق في التعبير عن الرأي. يستذكر فترة «السين سين»، ويقول: «عند أول زيارة للرئيس سعد الحريري لسوريا، بقيت يومين جالساً في المنزل»، يتابع: «حتى أني رميت البرازق التي أُحضرت من هناك». ويتهكّم: «لو ترى الجزيني كيف كان مكتئباً في تلك الفترة»!
وعن الوضع في سوريا اليوم، يقول: «الطرفان توجها إلى الحد الأقصى، من بداية الثورة، رفع الناس شعار إسقاط النظام الذي اعتمد سياسة القتل والإرهاب». يتحدث عن كل هذه الأمور، مشيراً إلى أنه «لا يمكن أن أسكت عن شيء، صمتت في فترة السين سين، لكن اليوم لا يمكن أن أسكت عن الثغَر الموجودة لدى الخصوم، وخصوصاً حزب الله التي باتت تفضح براغماتيته».
وضع أيمن جزيني يده على خدّه وأغمض عينيه محاولاً استغلال انشغال أحمد في النقاش أو في الطباعة على هاتفه. يلتفت أحمد: «لا، لا! أحضرنا لك القهوة لكي تستيقظ، لا لكي تنام»! يفتح جزيني عينيه ويقحّ، يستدرك الأمين العام: «أعلن أنك لم تنم في الليلتين الماضيتين، بس خلّيك معنا».
بعد ساعة على الانطلاق، تتحوّل السيارة إلى مكتب خدماتي متنقّل. يحمل أحمد أوراقاً تحمل أسماء وأرقام هواتف، يتصل بالناس ويسألهم عن طلباتهم: تأشيرة عمل في السعودية، وظيفة في إحدى الشركات، دورة تدريبية في أخرى. بهذه الطريقة يتواصل الحريري مباشرة مع المستفيدين من خدمات التيار.
بهذا الأسلوب يتصرّف أحمد مع من حوله. في منزل النائب أحمد فتفت في الضنيّة، يلقي الحريري كلمة مختصرة عن وضع التيار وعن الربيع العربي، ويقول «إننا سنبقى الزهرة المعتدلة في العالم العربي». بعد دقائق، ولدى سؤاله عن أي ملاحظات أو استفسارات من الحاضرين، يتقدم أحدهم بتعليق ساخر نظراً إلى معرفته بالأمين العام: «إذا لم تعتن بالزهرة فإن الحشرات تنهشها وتيبس». يرد الحريري: «اترك الاعتناء على طريقتنا ومش على طريقتك».
يسأل أحد الحاضرين عن الهجمة الميقاتية على التيار، يجيب الحريري إن المستقبل لن يقف في وجه أي طرف يريد تقديم المساعدات وإنماء المنطقة. تنتهي الجلسة السريعة في منزل فتفت، وينتقل الجميع إلى مسجد البلدة للمشاركة في صلاة الجمعة. يعيد السؤال ويطرح نفسه في السيارة، ماذا عن الهجمة الميقاتية؟ يجيب الحريري: «الرئيس الحريري يكسب بصمته اليومي، إذ إنّ الآخرين يخطئون. الرئيس ميقاتي وحزب الله وغيرهم يرتكبون الأخطاء التي تصب في مصلحتنا من دون أي جهد».
يدخل أحمد الحريري إلى الجامع. يبتعد عن الصف الأول ويجلس في الوسط لمتابعة خطبة الجمعة. ثم في تأبين أحد أبناء المنطقة، فيقف مجدداً في صف الانتظار كغيره. يسأل عن وضع فلان ويجيب عن سؤال علّان، يتقدّم بالتعازي ليعود الموكب وينطلق باتجاه منزل منسّق التيار في الضنيّة، هيثم الصمد.
في هذه الدار، يظهر أحمد الحريري قوّته بين الناس، إذ يلقي عليهم التحية فرداً فرداً، مسؤولين ومواطنين ومزارعين، مردداً أسماءهم عن غيب. وإذا أخطأ باسم أحدهم، يصلح ما بدر عنه بالطريقة الآتية «عفواً نعم، وأنت رقمك …» متلفّظاً برقم هاتف الشخص الذي غاب اسمه عن باله. يجعل هذا الأمر من أحمد الحريري قريباً من الناس، وخصوصاً في مناطق الأطراف المنسية، الذين يستعيدون ثقتهم بأنفسهم عند مقابلة أي شخص من آل الحريري. مسؤولو المستقبل في الضنية والشمال يؤكدون أنّ «الطلات» المتكررة لأحمد الحريري ساعدت على ثبات جمهور التيار الذي حافظ على ما يقدّر من 90% من ناسه. يؤكد المستقبليون أنّ القيادة استطاعت إعادة ترتيب صفوفها بعد نكستي الانتخابات البلدية والنيابية الفرعية «التي أخطأ فيها منسقّون ونواب». يضيفون إنّ أحمد الحريري يتجاوب مع الجميع في البلديات، مستقبليين أو حلفاء أو خصوم، وهو يستمع دائماً إلى ملاحظات هذه البلديات التي غالباً ما تكون: «عندكم من يعمل بأساليب تنظيمية خاطئة».
وما يهم المستقبليين أنّ تيارهم استطاع تركيز نفسه كحزب خلال بعد الانتخابات الفرعية، وأنه «ليس خاضعاً لأهواء العائلات وأجوائها» كما يقول المسؤولون. يضيفون إنّ ما اكتسبه التيار رغم النتيجة المتواضعة في الفرعية أنّ «الناس فهمت أن هناك قراراً حزبياً يجب الالتزام به»، والأهم من ذلك أنّ «آل علم الدين فهموا أنّ ترشيح كاظم الخير لم يحصل كرهاً بعائلتهم أو انتقاصاً من وزنها، بل لكون القيادة ارتأت ترشيحه».
يعمل المستقبليون في الضنية والمنية ليل نهار، فيتواصلون مع العائلات ويوطدون العلاقات معها. يعلمون أنّ النائب جهاد الصمد ليس بخصم سياسي يستطيع انتزاع تأييد المنطقة، وأنّ تقدّمه في الانتخابات لم يحصل إلا بسبب«زعل» بعض العائلات، فيعمدون الى تصويب هذا الأمر. 
الحديث السياسي بين المستقبليين في الضنيّة يتمحور بالأساس حول طرابلس، وهذه هي المعركة الأساسية التي يعرب المستقبليون عن تشوّقهم لخوضها بوجه الرئيس نجيب ميقاتي والرئيس عمر كرامي والوزير محمد الصفدي. هم يرون أنه «في طرابلس، نحن نتقدم على ميقاتي والصفدي وكرامي، رغم كل ما يشيعه هذا الثلاثي»، ويؤكدون أنّ هذه المعركة منتهية في حال تمكّن التيار من خوضها، وعلى لوائحه كل من «اللواء أشرف ريفي ومصباح الأحدب وأبو العبد كبارة». ويطغى هذا الموقف على قيادات المستقبل في الشمال، التي تشدد على أنه «كلما علا سقف خطابنا تقرّب الناس أكثر».
اقترب موعد حفل افتتاح طريق بريصا ـــــ مربّين، انزوى أحمد الحريري بحجة مراجعة الكلمة، وبعد نصف ساعة تقريباً انطلق موكبه وموكب النائبين أحمد فتفت وكاظم الخير باتجاه الحفل. اشتكى من أداء الدراج الذي رافق المواكب الثلاثة، وقال مازحاً: «لماذا وجود الدرك؟ أصبحنا في المعارضة! تعالوا نضرب عليه حجارة»! يضيف قاصداً الدراج: «انظروا، عايش دوره منيح»!
يتحدث أحمد عن التنظيم المستقبلي، فيؤكد أن مهمّته ستكون طويلة في الأيام المقبلة، إذ سيقوم بجولات على المنسقيات الـ 17، مشدداً على ضرورة إيجاد الآليات اللازمة لإشراك الناس في الحياة التنظيمية.
يصل الموكب إلى المكان المخصص للاحتفال، يدخل أحمد الحريري على وقع أغاني المستقبل، «بتمون» و«وعد علينا ما منختار»، يجلس في الصف الأمامي ليتابع حديث الهاتف، فيما يدعو عرّيف الحفل النائب فتفت لإلقاء كلمته. يطل الأخير مشدداً على خط التيار وعلى «الحريرية السياسية» التي بنت البلد وحمته وحافظت على اقتصاده! ثم أتى دور أحمد، الذي توجه إلى المنصة ممسكاً كلمته بين يديه. تحدث باسم «الرئيس الحبيب سعد الحريري»، وكأنه نسخة عنه. ذكّر بالمحكمة الدولية، وبتجاوزات حزب الله الذي «عليه إثبات براءته أمام المحكمة، لأنه حتى اليوم بالنسبة إلينا هو مرتكب الجريمة»، وأكد ضرورة دعم الشعب السوري، مشيراً الى «أداء لبنان الرسمي الذي يحرج اللبنانيين».
انتهى الاحتفال. احتشد الموجودون حول الحريري، الطلب الأول: «سلّم لنا على الشيخ سعد». عاد إلى السيارة وانطلق الموكب باتجاه بيروت، وفي ذهنه خلاصة وحيدة: «المنطقة بحاجة إلى الدولة، وليس بإمكان أي طرف المساعدة بقدر ما تستطيع الدولة». أما الخلاصة الأهم التي يمكن أي ضيف استخراجها فهي أنه لم يعد للعمل الإنمائي وزن ثقيل في الحياة السياسية في الشمال، وأنّ الشارع فيها مقسوم والناس مسيّسون أصلاً، وبالتالي العمل سيكون على شدّ العصب، لا على التقرّب من الجمهور عبر العمل الاجتماعي.
أنهى أحمد الحريري مهمّته، وبات بإمكانه الاسترخاء. وضع هاتفه جانباً وأطلق العنان لمسجلّة السيارة: جورج وسوف في أسطوانة تضمّ 103 أغانٍ. يؤكد أنه لا يستمع إلا لـ«أبو وديع»، مشيراً إلى وجود صراع في العائلة بين وسوف وعمرو دياب.
رغم ذلك، يقول المستقبليون: «بات أحمد قادراً على الإحاطة بكل الملفات»، وهو ما يدفع إلى التأكيد أنّ أحمد لم يسقط من المظلّة على التيار، بل كان عمله بالتدرّج، وقد يتجاوز صفة الرئيس المؤقت إلى الرئيس البديل». 

السابق
لا حلّ لمشكلة سعد ..
التالي
العاصفة تنفخ في البيت العونيّ!