في ركب الفوضى الخلاّقة

أنشأت الولايات المتحدة الأميركية مبكراً فريقاً من الاقتصاديين المتخصّصين، مهمته سفك دماء اقتصاد الدول وثرواتها، عن طريق تغذية الفساد بين مسؤولي هذه الدول، بحيث يتهافتون لتأمين نِسَبهم المئوية من القروض التي تمنحها لهم أميركا، شريطة عدم توظيف أموالها في مشاريع ذات جدوى إقتصادية قادرة على سداد هذه القروض، التي تستهدف تثبيت الاستعمار الاقتصادي كشكل جديد من أشكال الإستعمار.
الدول التي تجتاز امتحان القروض بمقاومتها، وتصرّ على رفضها وتحصين نفسها ضد هذا الاستعمار، تخضع بالتالي للحصار والتضييق الاقتصادي متعدّد الدرجات من قبل الغرب، بانتظار فرصة مناسبة للسيطرة عليها، حيث الذرائع الواهية جاهزة دائماً، ما يندرج ضمن الخطة الأميركية المعتمدة لتسريع مشروع تثبيت السيادة الاميركية على العالم لقرن جديد؛ وقد جاء في سياقه السطو على ثروات العراق ومن ثمّ الدول العربية الأخرى بهدف تصحيح مسار الإقتصاد الأميركي المتهاوي منذ منتصف التسيعنات، أي منذ فترة الإفلاس الفعلي للشركات الأميركية الكبرى.
يبدو من الواضح أن أميركا استطاعت السيطرة على هذه الثورات، فهي قد نجحت في ذلك في كل من تونس ومصر وليبيا (حيث عوّضت للحلف الأطلسي ما فقده من غنائم في العراق وأفغانستان)، وتُعدّ العدّة حالياً لإيران، وهذا ما يؤكده تصريح وزير الدفاع الأميركي «ليون بانيتا» من أن الثورة في إيران هي فقط «مسألة وقت»… إنها المعركة الأساسية التي تدور رحاها اليوم في أكثر من كيان عربي تحت مسميات مختلفة، وأحيانا أسباب متفاوتة ومتباينة والتي بات يطلق عليها «ربيع الثورات العربية».
لكن هذه الحركات الاحتجاجية، تستغلّها قوى خارجية تحاول إحباطها ومحاصرتها وتغييرها حسب ما تقضيه سياسات الغرب المستعمر: أوروبا- أمريكا – «إسرائيل»، والتي تعمل حكوماتها وأنظمتها مجتمعة على سياسات طويلة الأمد لا تتغيّر بتغيّر حكوماتها… ولم يعُد خافياً، أن خطط احتلال العراق قد وضعت تفاصيلها قبل عام 1985 ونوقشت أدق تفاصيلها، وكذلك المخططات لما يحصل الآن في اليمن ومصر وسورية وغيرها من الدول المحيطة… أما ليبيا فآخر خطة وضعت لها كانت في العام 2009 وذلك تحت مظلة حلف الأطلسي وإشرافه.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف سيكون موقف المعارضات هذه، وتحديداً ما يسمى بـ«المعارضة السورية»، إذا ما لامس الوضعُ في سورية الوضعَ العراقي أو الليبي أو اليمني… أو إذا جاء مَن يركب موجة الاحتجاجات هذه ليسلّمها مجاناً إلى العدو الصهيوني، ليكسر بذلك ظهر المقاومة اللبناينة والفلسطينية؟
ألا يجدر بهذه المعارضات إيضاح موقفها من الاحتلال الأميركي الإقتصادي للدول العربية، والذي يشكل أخطر أنواع الاستعمار من خلال سيطرتها على منابع النفط في العراق ودول الخليج كافة؟
نودّ لو نعرف موقف هذه الحركات من كل ما يجري حولها، أي القضايا العربية الكبرى، مثل احتلال فلسطين والوجود «الإسرائيلي» الغاصب والمحتلّ؟ نأمل معرفة موقفها من الدول العربية المعترفة بـ«إسرائيل»، كما موقفها من الأراضي المحتلة في الجولان وفي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا؟ حبذا لو تصرّح لنا هذه المعارضات عن موقفها من السلاح النووي «الإسرائيلي»، حيث تقوم الدنيا ولا «تقعد» ضد النووي الإيراني، وما من أحد في المقابل، وخصوصاً الحكام العرب، يعترض على المفاعلات النووية «الإسرائيلية» القائمة منذ العام 1960، والذي يُفترض أن نكون جميعاً ضدّ وجودها في المنطقة؟   
ماذا عن موقفها من الأصولية الإسلامية والسلفية والقاعدة والتشدد، كذلك من العنصرية والطائفية والمذهبية؟ ثم هل هي تريد نظاماً رأسمالياً أم اشتراكياً … بديلاً عن الدولة الحالية التي لا تنفكّ تطالب بإسقاطها؟
أسئلة كثيرة باتت الاجابة عليها ملحّة وجدّية مع التطورات اليومية المتسارعة للوضع العربي، وتتطلّب منا جميعاً، مهما تفاوتت آراؤنا، ان نكون على قدر من المسؤولية قبل الانخراط في موجة مواقف التخوين لهذه الجهة او تلك، او الدخول في معارك تقاسم حصص الدعم الغربي المشبوه أسوة بما حصل في أنطاليا!
ألا ينبغي لمن يخوض هذه المعارك الاحتجاجية تمييز اتجاه البوصلة اولاً، وقبل كل شيء، والإعلان للناس بصدق وشفافية عن الوجهة التي سيذهب بهم اليها، فيما لو انتصر في معركته، وهي في هذه الفترة الزمنية وفي حالتنا العربية تتمثل بمقاتلة العدو الصهيوني ودعم المناوئين له… وأن يعرف ثانياً نتائج تحركاته، وهل ستقوده إلى تحقيق مطالبه، أم إلى تدمير بلده وتمزيقه وتفتيته وتسليمه إلى عدو متربّص لا يريد الصلاح ولا الإصلاح لا من قبل «المعارضة» ولا من قبل الدولة؟
ألا ينبغي اعتبار قضية فلسطين، القضية الأولى والأساس؟
ليس من المستغرب أن يكون بعضنا خائفاً مما يُهيّأ للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية باسم «الحركات السورية الاحتجاجية» التي يبدو واضحاً أنها لا تهتم بالقضية الفلسطينية، ولا بدماء طفل فلسطيني يتعثر في انتفاضته بين الرصاصة والحجارة. مللنا مناداتهم ومطالبتهم بالشعارات المطاطة المطالبة بـ "الحرية والديمقراطية"، هي الشعارات الملوثة بدماء الأبرياء الذين يتساقطون يومياً باسم «السلمية».
ألا يبدو واضحاً ان هذه الحركات الاعتباطية «المدروسة» هي أكبر هدية تقدمها الإدارة الأميركية للعدو الصهيوني؟
بعد هذه الصورة الشاملة والواقعية نقول لمن يسمون أنفسهم «معارضات» في سورية: إذهبوا للحوار الذي تدعو إليه الدولة كي لا تقعوا في الفخ الأميركي الأوروبي «الإسرائيلي»، وكلنا يعلم أن هناك الكثير من السوريين يتخوّفون من «المجالس الانتقالية» التي تفرخ كل يوم، فتفضح مطامع «المعارضين» السياسية.
إن ما يجري في صفوف «المعارضة السورية» يحدو بنا إلى تشبيهها بفوضى سياسية، يُراد منها تحصيل "مكاسب" لفئة على حساب أخرى، في ظلّ تهميش خطر أفقدها ثقة الشارع السوري الذي بات أكيداً من أن أميركا هي التي تلعب لعبة الفوضى الخلاّقة في المنطقة، وبات حذراً ومنتبهاً من هذه الأفخاخ، وهو حريص ألا يقع فريسةً سهلةً فيها.  

السابق
هل الإنسولين علاج للألزهايمر؟
التالي
الشوط الثاني يخذل لبنان أمام كوريا الجنوبيّة