التقدم إلى الخلف

حين غطت الكنيسة المارونية في لبنان تحركات الاحتجاج على اغتيال رفيق الحريري، وعملية طرد الجيش السوري من لبنان، توهّم البعض أن هذه الكنيسة تدعم القوى الليبرالية في مسعاها إلى تطوير البلاد، وتحويل المزرعة اللبنانية إلى دولة قانون قادرة ومستقرة. كأن الكنيسة هي حزب ثوري، وكارلوس إده هو روبن هوود.
إنه أحد الأحلام التي يرسمها اللبنانيون لأنفسهم لتغطية العورات الشائنة في ممارستهم السياسية وقيادتهم لبلادهم، فلا حركة 14 آذار ليبرالية، ولا هي قوى تطوير وتقدم، ولا يشبه ميشال معوض مثقفي الثورة الفرنسية بشيء، ولا الكنيسة ترغب أصلاً في رؤية الحال تتغير وتتبدل والدنيا تتطور، وتطلق عندها شعارات من عيار «شنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر رجل دين».
فقوى 14 آذار بالمجمل، وكل منها على حدة، هي مجرد مجموعات استغلت طموح اللبنانيين إلى التحرر والتغيير، لتقدّم إليهم محاولة إعادة عقارب الساعة الى أزمنة ما قبل الحرب، على مستوى العلاقات بين الطوائف، وبين لبنان ومحيطه، وبين لبنان والغرب، وبناءً على أحلام جرى السير خلف هذه الشخصيات، وثبّتت هذه القوى سلطاتها بأقصى مما كانت حين مارست هذه السلطة بصفتها ملحقة بالاستخبارات السورية في لبنان. 14 آذار في الممارسة كانت أقرب الى محاكم التفتيش، وحركة كو كلوكلس كلان العنصرية.
الكنيسة، من ناحيتها، كانت أكثر من يعي أن جوهر 14 آذار هو إعادة الزمن إلى الخلف، لا تطوير النظام الطائفي في البلاد، وكان واضحاً للكنيسة أنها هي من يمكنه أن يغطي حركة بهذا المستوى من الرؤية السلفية السياسية، فكانت الداعم الأول لها في ذلك الوقت.
العودة الى الخلف ليست دائماً هي ما تطمح اليه القوى اللبنانية، بل هي أيضاً تحاول جعل الحاضر يدوم الى الأبد، ومنع الزمن من تغيير الواقع، فأي تغيير قد يسحب سلطات أو إمكانات، أو يُحدث تعديلات في التقاسم الحالي للسلطات بين المذاهب، والقواعد المذهبية والطائفية هنا دورها هو منع التعديلات، والحصول على المزيد من المكاسب في حكم المزرعة الوطنية إن أمكن.
مفهوم أن تطلق الكنيسة المواقف المعارضة للتغيير في المنطقة العربية، وأن تطلق تخوفاتها شمالاً ويميناً، ومفهوم أيضاً أن تقترب من قوى أخرى تبدي نفس الموقف المتخوف، أو ترى الكنيسة أن هذه القوى ستتضرر من التغيرات في المنطقة، لكن الغريب أن تقوم قوى هي في الأساس تتشارك في المنطلقات مع هذه الكنيسة وتهاجم مواقفها المنطلقة من مبدأ واضح، ومن مصالح مباشرة وبعيدة المدى. 
محيرة هي الثورات العربية للجميع، ويمكن قول الكثير عنها، ويمكن اتهام الثوار في سوريا بأنهم من العراعرة، أو أنهم عملاء للغرب، لكنّ شيئاً وحيداً مؤكداً أنهم يسعون إلى تغيير الواقع، حتى النظام السوري أبعد نفسه عن محاولة تجميد اللحظة التاريخية، أي حاول إبعاد نفسه عن صورة القوى الرجعية (تلك القوى التي ترفض تطوير الواقع والتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي)، وراح النظام يطرح الإصلاحات خلف الإصلاحات ليوحي بأنه قادر على الحياة وفق تغيرات الزمن، وأنه نظام «تقدمي»، إلا في لبنان، فإن مجاراة الزمن ليست من شيمنا.
ها هي الكنيسة تتصدر القوى الرجعية، يليها أولئك الذين هاجموها انطلاقاً من رؤيتهم أن موقف الكنيسة يتعارض مع موقف الشماتة اللحظي من النظام السوري، واعتبارهم أن الفوضى التي ستحملها التغييرات في سوريا ستتيح لهم إعادة لبنان الى أزمنة حكموا فيها، أو حكم فيها من يشبههم، فراح تيار المستقبل وهو يتخيل نفسه قوة ليبرالية (تحررية) يمارس أبشع أنواع التخلف الرأسمالي، وظهر رئيسه بصورة كاريكاتورية للرجعي، حين خرج من السلطة وغادر البلد، حيث لم يتخيل في لحظة إمكاناً لتداول السلطة، أو لأن يجري تجاوز مرحلته في البلاد.
يلي هذه القوى في الموقف الذي يحاول إدامة الواقع السياسي كل من ساند الكنيسة في موقفها، فهؤلاء أيضاً من تيار وطني حر إلى قوى رسمية في السلطة حالياً (وسطية وغير وسطية) الى حزب الله، يرون أن موقف الراعي يدعم محاولة تثبيت الأمور في نقطة تاريخية محددة، بينما الزمن يسير الى الأمام، وأن موقف الكنيسة قد يؤدي الى تغيير في توازن قوى داخلي يساعد على تعديل موازين الانتخابات النيابية المقبلة، أو على تلطيف الحرب الأهلية الباردة في لبنان.
وبينما العالم يتغير من حولنا، لم تكلف قوة في لبنان نفسها بأن تقرأ ما يحصل. الكل فضل الاستكانة الى رجعيته النابعة من تخلف وبداوة ومذهبية. لم يكلف أحد نفسه اتخاذ موقف تقدمي أو ليبرالي، إلا من رأى في ما يحصل فرصة لممارسة انتهازية متأصلة. المنطقة تتغير، وعلى القوى أن تتعايش مع التغيير أو ستغرقنا في دمائنا. 

السابق
ماذا قال بري لـمارغيلوف؟
التالي
ميقاتي عند البطريرك