ربيع مسيحي في وجه تحالف الأقليات

لم تقم المسيحيّة المشرقيّة بأي ثورة لاهوتيّة في تاريخها الحديث. بقي تأثّرها بالثورات اللاهوتيّة الحديثة للمسيحيّة الأوروبيّة طفيفاً وعابراً. اعتبرت قلّة التأثّر في هذا المجال دليل أصالة أو انضباط. لم تفهم أنّ الحداثة تكون بإقرار الذات اللامتناهية للفرد، وتاريخيّة الوعي الدينيّ وكل أشكال الوعي، وانتفاء السحر من الطبيعة والعالم. لم تمرّ المسيحيّة المشرقيّة باللحظات الثورية الأساسية التي أعادت إنتاج الوعي المسيحيّ الأوروبيّ التاريخيّ، من "مارسيل دو بادو" إلى "مارتن لوثر" إلى "المجمع التريدنتيني" إلى "باروخ اسبينوزا" إلى "لودفيغ فويرباخ" إلى "سورين كيركيغارد" إلى "ارنست رينان" إلى "فلاديمير سولوفيف" إلى "المجمع الفاتيكاني الثاني". على العكس تماماً، اعتبرت أنّ الحداثة ينبغي أن تحصر بتحديث جزئيّ لجوانب مختارة من الخطاب والتأدّب والسلوك والمعاش اليوميّ، بقصد التقرب "الإمتثاليّ ـ الإحتمائيّ" من الغرب، والتمايز من خلال هذه الجوانب، أو مع التفاضل بها مع المسلمين.
والغرب بدوره لم يكذّب خبراً، فجنح قسم أساسيّ من خطابه الإستشراقيّ للتعامل مع وجود مسيحيي الشرق على أنّه وجود للشهادة على التاريخ القديم للمنطقة من جهة (براد!)، وعلى أنّه تحدّ رمزيّ تثبت من خلاله المجتمعات العربيّة الإسلاميّة قدرتها على التسامح، كما تعامل هذا الخطاب مع مسيحيي الشرق على أنّهم جماعات ليس لديها مشكلات جديّة أساسية مع الحداثة تقارن بالمشكلات التي تختصرها ثنائية "الإسلام والحداثة". ما يستنتج منه أن لا داعي لأن تنشب أي ثورة لاهوتيّة مسيحية مشرقية.
وهذا القسم الأساسيّ من الخطاب الإستشراقي راح يؤسّس منذ القرن التاسع عشر للقفز من عتبة "إلغاء وجود مسألة مسيحية في الشرق" إلى عتبة "إلغاء وجود مسألة مسيحيي الشرق" إلى عتبة التأسيس لنظرية "التحالف العميق بين الأقليّات المسيحية والأقليّات المسلمة غير السنّية في الشرق".
فالمسألة "المسيحية" في الشرق ملغاة بمجرّد إلغاء السؤال الملحّ عن ضرورة الثورة اللاهوتية بين مسيحيي الشرق، أي ضرورة وصل مسيحيي الشرق بالثورات اللاهوتية التي شكّلت الوعي المسيحي الأوروبي الحديث.
أمّا مسألة "مسيحيي الشرق" فملغاة بمجرّد تخييرهم بين نموذجين: نموذج "السكّان الأصليين" من جهة، ونموذج "الجاليات الأجنبية" من جهة ثانية. والأخطر من ذلك أن جرى الخلط بين هذين النموذجين.

في المقابل فإنّ نظرية "التحالف العميق بين الأقليّات" بصرف النظر إذا كانت أقليّات ضمن الفضاء الدينيّ الإسلاميّ ـ المسيحيّ فإنها انبنت على مفاضلة استشراقية مزمنة بين التسنّن والتشيّع لمصلحة التشيّع، إنّما كل مرّة لسبب جديد، بدءاً من الكونت دو غوبينو في القرن التاسع عشر الذي اعتبر الصراع المذهبيّ انعكاساً للصراع بين العرق الآريّ والعرق السامي، بل كانت إقامة غوبينو في بلاد فارس محوريّة جدّاً لجهة استكمال بناء "الأسطورة الآريّة". وفي القرن العشرين سيجعل هنري كوربان من كل مذهب ديناً مفترقاً عن الآخر: دين الإشراق المستمرّ في حال التشيّع، والدين التشريعيّ المغلق في حال التسنّن. وإبان الثورة الإيرانية، سيكتب ميشال فوكو في ذروة حماسته للخميني أشياء من هذا القبيل، فيجعل الديموقراطية في فئة، والديكتاتورية في فئة أخرى. وإننا نرى أن تسّلل هذه المفاضلة الإستشراقية المزمنة بين التسنّن والتشيّع لمصلحة الأخير أفقدت السياسة الأميركية توازنها في الموضوع العراقيّ، وأضاعت جانباً أساسيّاً من الفرصة التاريخية التي أتاحها إسقاط النظام البعثيّ العفلقيّ.
هذه المفاضلة الإستشراقية المزمنة بين التسنّن والتشيّع لمصلحة الأخير هي التي تمثّل العمق الثقافيّ لنظرية "تحالف الأقليّات" اليوم، لأنّ باب النظر الذي تعتمده لتاريخ الفِرق والمذاهب في الإسلام هو تعيين أي فِرق أقرب لاهوتياً إلى المسيحيّة، وأيها أبعد عنها، وهذا خطأ نظريّ أساسيّ، وخروج جوهريّ عن تاريخيّة الوعيّ الدينيّ. إنّ تاريخاً كاملاً من المفاضلة الإستشراقية سبق أن لخّصه العماد ميشال عون قبل سنوات عندما قارن بين شعائر عاشوراء وطقوس صلب المسيح. كان أفضل له لو قرأ "عذابات الحلاّج" لماسينيون، والحلاّج لم يكن شيعياً، تماماً مثلما أنّ صدّام حسين لم يكن شيعياً، خلافاً لمعلومات من ظنّ أنّ المسيحيين في العراق تعذّبوا من بعده بسبب "حكم السنّة"!!
منطق "تحالف الأقليّات" هو إذاً: لا وجود لمسألة مسيحيّة في الشرق، أي لا ضرورة لثورة لاهوتية تعيد الحياة إلى المسيحية في الشرق، ولا وجود لمسألة مسيحيي الشرق، أي لا ضرورة لثورة إجتماعية وسياسية تعيد تأسيس وجودهم الحضاريّ بشكل يتجاوز ثنائية "سكان أصليين جالية أجنبية". أما التحالف فلا يكون بين أحرار المسيحيين وأحرار المسلمين، ضدّ الإستبداد والبغضاء ومن أجل حقوق الإنسان والديموقراطيّة، ولا يكون "تقريباً" بين الكنائس المسيحية في ما بينها على طريق "الوحدة المسكونيّة"، إنّما يكون التحالف بين الأقليّات غير المسلمة من جهة وبين الأقليّات المسلمة غير السنّية من جهة ثانية.
"اللاسنّية" هي إذاً عقبة معرفية وسياسية وحضارية تحول دون أن يطرح مسيحيّو الشرق قضاياهم بالشكل الصحيح، ولأجل هذا فإنّ الموقف من الربيع العربيّ فرصة أساسية للتعرّف إلى هذه العقبة والعمل لدحضها، في اتجاه تفجير ربيع مسيحيّ داخل كل جماعة مسيحيّة مشرقية وعلى امتداد مسيحيي الشرق: بالمختصر المفيد، آن الأوان لربيع مسيحيي الشرق في وجه "تحالف الأقليّات"، وفي إطار الربيع العربيّ الكبير.

السابق
تمويل المحكمة الدولية يحتاج الى حلً سحري
التالي
حمادة: مواقف جنبلاط تصويب ذاتي مدعوم بقرارات الحوار الوطني