عيب يا شباب…

حتى المعارضة بكبر، تحتاج إلى سلطة كبيرة ربما. نتذكر سولجنتسين يوم كان تحت النير السوفياتي معارضاً بقلمه والحياة، ودخل في سجالات حادة مع الكنيسة الأرثوذكسية الموسكوبية، بشأن موقفها من النظام. فرغم قيام سلطة «المادية الجدلية» والإلحاد العلمي الرسمي، ظلت الكنيسة حية، وظلت على علاقة بسلطات الكرملين المتعاقبة، فيما كان صاحب «أرخبيل الغولاغ» يريد منها أن تكون في ثورة دائمة… بعد عام 1974، وانتقال الروائي الكبير إلى الغرب منفياً، سارع إليه بعض الإكليروس الروسي المقيم في الخارج، والمعتاش على العداء لكنيسة موسكو. رأوا أنهم سيجدون في صوته الرافعة التي ينتظرون، وفي موقفه المنبر الكافي للانقضاض على «المتخاذلين» في زاغورسك ودانييلوفسكي. غير أن الحائز جائزة نوبل خذلهم، والتزم صمتاً مطبقاً حيال الكنيسة. قال لهم: بكل بساطة، يوم كنت في سياق مطابق لسياقهم، كنت أسمح لنفسي بانتقادهم ومخالفتهم الرأي. اليوم أنا في الحرية، فيما هم تحت النير. لم أعد أحيا ظروف حياتهم، وبالتالي لم أعد أملك الحق الأدبي والأخلاقي لانتقاد سلوكهم وفكرهم وقولهم…
مناسبة استذكار ذلك الكبير في كلامه وصمته، ليست غير الردود الأخيرة على كلام البطريرك الراعي. فما المسألة إذا كان صاحب الغبطة على خطأ أو صواب. ولا هي قصة عصمة لا يدّعيها الرجل ولا يمنحها العقل لعاقل. كل الموضوع في من له الحق الأدبي والأخلاقي في الرد على البطريرك، وفي موضوعي سوريا وحزب الله بالذات.

ومدخل الإشكالية لمن نسي من أصحاب الذاكرات القصيرة أو المسطحة أو اللاذاكرة، أن الرجل نفسه كان طيلة الزمن السوري «أسقف المدينة»، بالمعنى الأكويني للكلمة. كان مناضلاً مقاوماً. رفع قضايا حقوق الإنسان كافة، من نفي عون إلى اعتقال جعجع إلى ظلم أنطوانيت شاهين، إلى كل استدعاء واعتقال وعسف وجور كثير كثيف في ذلك الزمن. ولتلك الذاكرات أيضاً، أن الراعي كان «منسّق» السينودس الخاص بلبنان، ومهندس ندائه الأخير في كانون الأول 1995، الذي كان أول نصّ يطالب بالانسحاب السوري. ويومها دفع الرجل الثمن. دفعه لأن رفيق الحريري كان فاعلاً في الفاتيكان، ولأن «شهيد ثورة الأرز» كان وزير خارجية سوريا فوق العادة، وكانت «حقائبه» فاعلة عبر حمَلتها من صقور «استقلال صفر ــــ خمسة»، فدفع الراعي ثمن سياديته.
الراعي نفسه اليوم، وقد خرجت سوريا من لبنان، لا يؤيّد نظامها، بل يخشى عليها من فوضى أو حرب أهلية أو نموذج عراقي. فمن ينبري للتهجّم عليه؟ 
أول هجوم على البطريرك سجّله واحد لم يكن غير ناطق رسمي لإحدى حكومات زمن الوصاية. وهو لم يتبوّأ المنصب لقريحته في الإعلام أو اللغة أو الخطابة أو الكتابة. فبالكاد يفكّ الحرف هو. وكم تندّر الناس في ألمهم يومها بقراءته لفرمانات زمن كنعان ــــ الحريري، حين كان يعوض عن مضمونها المأساة، بقراءته الملهاة. هو نفسه ردّ على الراعي اليوم. حتى إنه استدل في ردّه بقضية التمثيل والناس ــــ قال. وهو من وقف على باب سيارة زميل شمالي له يستجديه ساعة كاملة، ألا تسمح عنجر لمنافسه سنة 2000 بالتقدم عليه بالأصوات. كان يرتدي تلك الفلانيللا البيضاء، ويحمل سيكارته بإصبعين مرتجفين، حتى سقطت وأحرقت قميصه وثقبته ولم يحسّ، وتابع الاستجداء…

متهجّم آخر على الراعي، ودائماً باسم السيادة ورفض سلاح حزب الله، كان أول نائب ماروني ترك مار مارون والكنيسة والإفخارستيا، لأن أسقفاً جليلاً لم يكرّم حزب الله بما يليق بكتبة الأنظمة التوتاليتارية، من تقريظ ومدائح. والمتهجّم على الراعي اليوم، هو نفسه من يروي عنه حلفاؤه الحاليون لا غير، ويتندرون ويتبارون بالوقائع والأسماء والتواريخ والأرقام والأثمان، كيف أن في بيته من ظلّ أعواماً يتباهى بهدية العرس لزفاف ابنة ضابط أمني سوري…
وبين المتهجّمين من سكت 15 عاماً، كان خلالها يجمع الأموال السوداء عن موائد النظام السوري، فيما دوامه الأصلي في مكاتب الأجهزة. وبينهم من وقف على المتحف رافضاً أي كلمة عن القرار 1559، ومن ترك لقاءً سيادياً أساسياً لأن مرشحاً نيابياً ساقطاً أوحى له بإمكان استقباله في دمشق، في مكتب خفير، لا عند الشريط الشائك، كما فعل ووقف ساعات منتحباً زاعقاً يوم تشييع حافظ الأسد…

فبمعزل عن مرجعية باريس وواشنطن في الهجوم على الراعي، وبمعزل عمّن نسي في الزمن السوري كيف صار شيراك ينام في قريطم ولا يزور بكركي، أو كيف ذهب البطريرك صفير إلى واشنطن بالذات سنة ألفين للمطالبة بالانسحاب السوري، فلم يستقبله إلا مساعد وزير خارجية، وبمعزل عن مكبوتات جوبيه الماضية أو أطماع كلينتون التالية، يبقى السؤال: من منكم يملك الحق الأدبي والأخلاقي في الكلام؟
بعض الخجل والحياء والخفر أكثر من ضرورة. عيب يا شباب. 

السابق
مئة مليار دولار لضرب الإستقرار
التالي
حريق قرب مكب النفايات في صيدا