سياحة جديدة بين القنابل العنقودية

حضر رجال قوى الأمن الداخلي منذ الرابعة والنصف صباح أمس، علماً أن التجمع، في ساحة «الحمام العسكري»، قبل الانطلاق في جولة ميدانية إلى النبطية، كان مقرّراً في الثامنة والنصف، ضمن فعاليات «الاجتماع الثاني للدول الأطراف في اتفاقية الذخائر العنقودية». هناك، التقى المندوبون الأمميون بعض الجرحى، وتعرفوا إلى «الفولكلور» اللبناني، كما شاهدوا عرضاً «افتراضياً» لاكتشاف قنابل الموت وتفجيرها

النبطية | ما انفك «الدركي الغاضب» يتذمر من حدة الشمس. في رأيه، «الاجتماع الثاني للدول الأطراف في اتفاقية الذخائر العنقودية» كان يجب أن يُعقد في قريته «المليئة بالألغام». قليلون هم اللبنانيون الذين لم تعرف قراهم القنابل والألغام. سرعان ما التحق «الدركي الغاضب» بإحدى سيارات قوى الأمن الداخلي التي رافقت الحافلات بطريقة هوليودية. انطلق الباص إلى النبطية في التاسعة. باص «أممي» بكل ما للكلمة من معنى. المندوبون لا يتحدّثون العربية. بعضهم كان مسروراً لأن لبنان «منطقة ساخنة». حتى إن بعضهم ظن أنه سيرى الحدود مع فلسطين المحتلة من النبطية. أحد الناشطين الأوروبيين كان يتحدث إلى صديقه في الخلف عن «مسافة قليلة تفصل بين الجانبين».

أكان يظن أن القنابل العنقودية منفلشة على الجانبين. استغرب حين أُعلم أن الشق الإسرائيلي «نظيف» تماماً، وأن القنابل العنقودية هنا وحسب. وفي الطريق إلى النبطية، ظنّ ناشط آخر، أن «جبل الزبالة» في صيدا، هو «عمل فني». لم يكن يمزح، وقد فاقت الحقيقة قدرته على التصديق، لكن، عندما شرح له أحد زملائه ماهية المكان، وطبيعة الأشياء الملونة التي تتمدد على الجبل، فتح النافذة، ووضع إصبعه على أنفه مشمئزاً. لم يوقف الحديث عن «لا مونتان دي ديشي» (جبل النفايات) إلا لحظة الوصول إلى قاعدة الجيش في النبطية.
هناك، جال المندوبون على طاولات جمعيات «المجتمع المدني» والحرفيين الناجين من القنابل. تفرّجوا على صور رأوها سابقاً في كمبوديا والبوسنة. كأن يجدوا رجلاً بين الركام يصرخ متألماً مستنجداً بأي شيء أو سيارات محروقة تنتظر الرماد، لكن في لبنان دائماً «هناك شيء مختلف». ثلثا هذه القنابل ما زال منتشراً في تلك الأودية التي أعجبوا بها كثيراً، وقال كثر منهم إنهم لم يتوقعوا لوناً أخضراً بهذا الشكل. كان هذا محط اهتمام الغالبية: القنابل ما زالت بيننا بعناقيدها وغضبها الذي قد يقطف الأطفال والكبار. قلة هم الذين فوجئوا بطبيعة القرويين الجنوبيين الودودة. فمعظم هؤلاء الزائرين عملوا في بيئات مشابهة، وصادفوا ضحايا حروب. علي، أحد أولئك الذين باغتتهم قنبلة عنقودية، كان محط اهتمام الكثير من الناشطين. تحدّثوا معه طويلاً، وأعجبوا بالسلال التي صنعها الحرفي المصاب في عينيه. أصيب علي أمام منزله في يحمر بعد خمسة أشهر على الحرب. واليوم، «لا تسأل الدولة عنه إطلاقاً ». تساعده «مؤسسة الجرحى» على القيام ببعض الأعمال الحرفية، لكن غير ذلك لا شيء يذكر. يضحك الرجل الذي انطفأت عيناه عندما نسأله عن «الدولة». يجيب: «أنت لبناني ولست مع الأجانب، عليك أن تعرف الإجابة».

أما حضور «الدولة»، فبدا مرتبكاً. فعلى الرغم من المجهود اللافت من رجال الجيش وبعض الضباط، لم يتمالك المتحدّث باسم الجيش أعصابه وقطع كلمته، التي كان يلقيها بالإنكليزية أمام حشد من المندوبين الأجانب، وناشطي المجتمع المدني، ليصرخ بالعربية: «سمعونا شوي». استغرب الجميع صراخ العميد وبعض «الأجانب» سأل عن معنى الكلمة باللغة الإنكليزية. لكن الأخير تابع كأن شيئاً لم يكن. ولاحقاً، بعد انتهائه من كلمته واشرافه على عرض «فولوكلوري» استعرض فيه الجيش عملية مسح الأراضي تمهيداً لاكتشاف القنابل وتفجيرها، سألت «الأخبار» العميد عن الناجين، في منتصف النهار، أي قبل المغادرة بساعة تقريباً، فجزم بأن «الناجين رحلوا ولم يبق منهم أحد». وفعلاً، كان البحث عن المصابين صعباً بين الحضور، باستثناء التنظيم اللافت على «ستاند» مؤسسة الجرحى. وإضافةً إلى تعرفهم على شيء من «الفولكلور» اللبناني، استمتع المندوبون الأمميون بعرض الجيش اللبناني في «المسرح الافتراضي». أحد المصابين، رحب بالاهتمام «الدولي»، وراح يعرّف المشاركين بلغة انكليزية ركيكة، على أماكن وجود المواقع الإسرائيلية السابقة، مؤكداً أنهم «حشوها ألغام». كان يبذل مجهوداً خارقاً، ليدلّ الوافدين إلى «العدوانية الإسرائيلية». وفي سياق منفصل، استغرب المصاب تنظيم الجيش اللبناني جولةً مشابهة في مدينة الصرفند، من دون أن يقلّل من «تضحيات أهل المدينة»، لكنه أشار إلى أن مناطق كـ«بنت جبيل وصور سقطت فيها كمية أكبر من القنابل». يعتقد أن ثمة «أسباباً سياسية» وراء اختيار الصرفند.

الأمم المتحدة تبدو بعيدة عن أي «أجواء سياسية». ففي حديث مع «الأخبار» أكد المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في نيويورك، جوردان ريان، أن لبنان بات قادراً «على تعليم الدول المحيطة به كيفية التعامل مع القنابل العنقودية، بفضل الخبرات التي اكتسبها والإرادة القوية لدى شعبه وحكومته بالتخلص منها». وبعيداً عن هذه «المعزوفة» الشبيهة ببيانات الأمم المتحدة التقليدية، أسف ريان لـ«عدم امتلاكه معلومات كافية عن إمكان الحصول على خرائط اسرائيلية توضح أمكنة سقوط القنابل العنقودية ». أخبره «الجنرال اللبناني» أن الخرائط السابقة «كانت مفيدة»، لكن «ليس هناك أي خرائط جديدة في الأفق ».

وفي طريق العودة، تابع رجال قوى الأمن الداخلي استعراضهم، فأطلقوا العنان لبوق السيارة المرافقة طوال الطريق إلى بيروت، كما مارسوا الحركات البهلوانية، وخرجوا من نوافذ سياراتهم لإيقاف السير بلا مناسبة، ما أضحك الزوّار الأمميين، لكن ذلك كان حدثاً مألوفاً لبنانياً. الأمر غير المألوف، هو اختتام الاجتماع في النبطية على وقع أنغام أغنية: «تي رش رش تي رش رش» راقصين الدبكة! 

السابق
معركة الكهرباء الى البرلمان.. للتصديق
التالي
يوم كشفي تدريبي ودورة إنقاذ بحري للكشاف العربي في الزهراني